مع التطور التقني الكبير الحاصل خلال السنوات الأخيرة، ومع تزايد انتشار التطبيقات والبرمجيات الذكية، أصبحنا نسمع بمصطلحات الذكاء الاصطناعيّ والتعلم الآلي بشكلٍ كبير؛ كالخوارزميات الذكية التي تساعد على اكتشاف الأورام بشكلٍ أفضل عبر مسح الصور المقطعية من أجهزة التصوير الطبقي المحوري، أو دور الخوارزميات الذكية في تطوّر المساعدات الرقمية الذكية وقدرات الحواسيب في التعرف على الكلام، أو حتى دور الخوارزميات الذكية في محرك بحث جوجل من أجل تحسين نتائج البحث وجعلها متناسبة مع الفرد وتفضيلاته وموقعه الجغرافيّ واهتماماته، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على فيسبوك التي تستخدم الخوارزميات الذكية من أجل عرض الأخبار والقصص على صفحة نيوز فيد وكذلك من أجل التعرف على الأصدقاء المحتملين من الصور التي يتم رفعها.
من الواضح إذن أن الخوارزميات الذكية (سواء كانت خوارزميات ذكاء اصطناعي أو خوارزميات تعلم آلي) ذات دورٍ هامٍ وكبير في الصناعة التقنية الحالية، ومن المرجح أن دورها سيتزايد بشكلٍ أكبر مع التطورات التقنية المقبلة مثل تبنّي معايير الاتصالات اللاسلكية عبر شبكات الجيل الخامس، مما سيعزز مجال الأجهزة المتصلة بالإنترنت ويفسح المجال بشكلٍ أكبر لتطبيق مفاهيم المنازل الذكية والمدن الذكية. هذه الأمور تدفع العديد من الأشخاص للبدء بتأسيس شركاتٍ ناشئة تقدم خدماتٍ في مجال الذكاء الاصطناعيّ، ومع الأسف فإن الكثير من هذه الشركات لا تقدم خدماتٍ مبنية بالفعل على مفاهيم الذكاء الاصطناعيّ، فبحسب تقريرٍ نشرته إم إم سي MMC اللندنية، فإن 40% من الشركات الأوروبية الناشئة المصنفة على أنها شركات ذكاء اصطناعي لا تقوم بتوفير حلولٍ أو تقنياتٍ تعتمد بشكلٍ دقيق على مفاهيم وخوارزميات الذكاء الاصطناعي.
من هنا تبرز الحاجة إلى توضيح هذه المصطلحات وما الذي تعنيه، وعلى وجه الخصوص الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.
ببساطة: ما هو الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي هو المجال المعني ببناء برامج وخوارزميات قادرة على حل المشاكل وإنجاز المهام المختلفة بكفاءةٍ عالية جداً، عبر الاستلهام من آلية عمل الدماغ البشري في إيجاد حلول المشاكل وإنجاز المهام المختلفة. ظهر مصطلح الذكاء الاصطناعيّ لأول مرة على يد العالم الأميركي جون مكارثي سنة 1956، ضمن ورشة عمل شهيرة في كلية دارتموث ينظر لها على صعيدٍ واسع على أنها نقطة البداية للذكاء الاصطناعيّ كما نعرفه اليوم.
بحسب جون مكارثي، فإن الذكاء الاصطناعي هو المجال العلمي والهندسي المرتبط بتصميم وبناء آلاتٍ ذكية، وبشكلٍ خاص برامج حاسوبية ذكية، وهو يرتبط بشكلٍ كبير بالمهام المتعلقة باستخدام الحواسيب لفهم الذكاء البشريّ، إلا أن الذكاء الاصطناعيّ غير مطالب بالتقيد بنماذج الذكاء والمنطق التي يتم ملاحظتها بشكلٍ حيويّ، أي نماذج الذكاء البشريّ. يوجد تعاريف أخرى للذكاء الاصطناعيّ ولكن من المنصف القول بأنها تدور في فلك بعضها البعض.
المشكلة الأساسية في الذكاء الاصطناعيّ هي بمفهوم الذكاء نفسه: متى نستطيع أن نقول عن آلةٍ أو برنامجٍ ما إنه ذكيّ؟ اعتمد باحثو الذكاء الاصطناعيّ على تحليل الذكاء البشريّ من أجل التوصل لمعالم واضحة يستطيعون عبرها الاتفاق حول ما هو "ذكي" وما هو "غير ذكي"، وهذه الجوانب ترتبط بقدرة البرامج أو الآلات امتلاك قدرات تحليلٍ منطقيّ للمشكلة التي أمامها تساعدها على تطوير طرقٍ مختلفة لحلها، فضلاً عن قدرتها على إدراك وفهم البيئة التي تتواجد ضمنها، والأهم: قدرة البرامج الذكية على إظهارٍ ذكاء عام؛ أي أنها قادرة على حل مشاكل وإنجاز مهامٍ لم تكن على ألفةٍ معها من قبل. لا تمتلك كل برمجيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ كافة خصائص الذكاء المذكورة سابقاً، خصوصاً مفهوم الذكاء العام الذي يعتبر أكبر تحديات الذكاء الاصطناعيّ.
يعتمد الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي على العديد من الآليات من أجل بناء برمجياتٍ وتطبيقات تمتلك صفة الذكاء، والعديد من هذه الآليات قائم على الطرق الرياضية مثل النماذج الاحتمالية والإحصائية، أو خوارزميات البحث والتحسين أو منطق الارتياب واللايقين، أو الطرق القائمة على التعلم من الخبرة، وهذه الأخيرة هي التي تقودنا لمفهوم التعلم الآلي.
اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي يهدد البشرية؟
ببساطة مرة أخرى: ما هو التعلم الآلي؟
يُنظر إلى التعلم الآلي على أنه أحد أشكال وطرق الذكاء الاصطناعيّ التي تهدف إلى بناء برمجياتٍ ذكية اعتماداً على فكرةٍ بسيطة، وهي التعلم من الخبرة، ما يعني أن البرنامج سيكون قادراً على تطوير طريقة حل المشكلة المعنية أو إنجاز مهمةٍ محددة عبر تزويده بكميةٍ كبيرة من البيانات يتدرب عليها في البداية، بما يتيح للبرنامج تكوين فهمٍ وإدراكٍ جيدين عن الهدف المراد الوصول إليه وطريقة الوصول إليه. ظهر مصطلح التعلم الآلي لأول مرة بعد فترةٍ وجيزة من ظهور مفهوم الذكاء الاصطناعي، وذلك عندما قام العالم آرثر سامويل Arthur Samuel سنة 1959 بتعريف التعلم الآلي على أنه "قدرة الآلة على التعلم من دون الحاجة إلى أن يتم برمجتها صراحةً لتقوم بذلك".
يرتبط التعلم الآلي بقدرة البرنامج على تحسين أدائه في إنجاز المهمة (أو المهام) المناطة به، فكلما حصل البرنامج على بياناتٍ أكثر، استطاع أن يتعلم منها أكثر؛ الأمر مشابهٌ تماماً لكيفية تعلم البشر عن طريق الخبرات المتراكمة التي تحسن من قدرة الدماغ على اتخاذ القرارات وتجعلها أسرع وأكثر كفاءة مع مرور الوقت.
يشتمل التعلم الآلي بدوره على العديد من الطرق والنماذج التي تهدف لبناء خوارزمياتٍ يمكن استخدامها لتوفير صفة الذكاء القائم على التعلم بالخبرة للبرمجيات والتطبيقات الحاسوبية. من النماذج الشهيرة المستخدمة في التعلم الآلي: الشبكات العصبونية الاصطناعية والتعلم العميق المستوحاة بشكلٍ كبير من طريقة عمل العصبونات الحيوية في الدماغ البشريّ.
الفرق بين الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
بعد العرض الموجز السابق نستطيع ببساطة أن نصل لاستنتاجٍ يربط ما بين المفهومين: الذكاء الاصطناعي مفهومٌ عام وشامل يقوم بوصف نوع محدد من الأنظمة الحاسوبية التي تمتلك قدراتٍ ذكية متقدمة، والتعلم الآلي هو إحدى الطرق التي يمكن استخدامها من أجل بناء هذه الأنظمة الحاسوبية الذكية، أي أن التعلم الآلي هو أحد طرق ووسائل الذكاء الاصطناعي.
هذا الأمر سيقودنا للفرق الثاني الهام: كل نموذج أو برنامج يعتمد على طرق التعلم الآلي قابل للوصف على أنه برنامج ذكاء اصطناعي، ولكن ليس كل برنامج أو تطبيق ذكاء اصطناعي قابل للوصف على أنه تطبيق تعلم آلي. يقع الكثير من الأشخاص في هذا الخطأ عند وصف تطبيقٍ جديد، بحيث يتم استخدام مصطلح التعلم الآلي للإشارة إلى تطبيقات أو برامج ذكاء اصطناعي، في حين أن هذه البرامج قد تعتمد على نماذج أخرى مثل خوارزميات البحث والتحسين أو خوارزميات منطق اللايقين والاحتمالات الرياضية.
من ناحيةٍ أخرى، يمتلك الذكاء الاصطناعيّ هدفاً عاماً هو جعل الحواسيب والبرمجيات قادرة على محاكاة طريقة الذكاء البشري الطبيعي، بغض النظر إن كان ذلك يتضمن مفاهيم التعلم بالخبرة أم لا، بينما يهدف التعلم الآلي بصورةٍ أساسية إلى جعل الحواسيب والبرمجيات قادرة على حل المشاكل وإنجاز المهام اعتماداً على التعلم من البيانات التي يتم تغذيتها بها، أي عبر محاكاة مبدأ التعلم بالخبرة الذي يمتلكه البشر.
ماذا عن الهدف العام؟ الذكاء الاصطناعيّ مصممٌ من أجل البحث عن الحل المثاليّ لمشكلةٍ ما، في حين أن التعلم الآلي يهدف لبناء نماذج تستطيع أن تُحسن من دقتها وأدائها في كيفية وصولها للحل. بمعنى آخر، تهدف العديد من خوارزميات الذكاء الاصطناعيّ للحصول على الحل المثاليّ بغض النظر عن الكيفية، بينما تركز خوارزميات التعلم الآلي بشكلٍ أساسيّ على الكيفية والطريقة التي سيتم اتباعها من أجل الوصول للحل وإنجاز المهمة المطلوبة.
بما أن الذكاء الاصطناعيّ مفهومٌ واسع وشامل، فإن هذا الأمر قاد إلى بعض النقاشات المرتبطة بما يمكن تصنيفه ذكاءً اصطناعياً وما لا يمكن تصنيفه كذلك، وهو المعروف بمفهوم تأثير الذكاء الاصطناعي AI Effect ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك هو برنامج ديب بلو Deep Blue الذي طورته شركة آي بي إم IBM ليتمكن من الفوز على بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف سنة 1997. تم وصف البرنامج على أنه ذكاء اصطناعيّ، إلا أن هذا الوصف لم يلقَ ترحيباً من قِبل العديد من النقاد الذين وجدوا أنه لا يمكن تصنيف ديب بلو بأنه برنامج ذكاء اصطناعيّ؛ لكونه يعتمد على منهجية هجوم القوة العمياء Brute Force التي تعتمد على حساب كل الاحتمالات الممكنة، وبالنسبة للعبةٍ مثل الشطرنج فإن ذلك قابل للإنجاز على الرغم من العدد الهائل للاحتمالات المتوافرة.
أما في حالة التعلم الآلي، فإن وجود مبدأ مركزيّ تتمحور حوله خوارزمياتها ونماذجها -وهو التعلم بالخبرة بهدف تحسين دقة النموذج- قد تسبب في جعل الأمور أوضح من ناحية القدرة على وصف برنامجٍ ما على أنه ينتمي لمجال التعلم الآلي. عندما فاز برنامج ألفا جو سنة 2016 على بطل العالم في لعبة جو الشهيرة لم يكن هنالك جدلٌ مماثل لذلك الذي حدث عقب فوز برنامج ديب بلو على جاري كاسباروف في الشطرنج. لا يمكن أن تعتمد جوجل على منهجية القوة العمياء وحساب كل الاحتمالات الممكنة واتخاذ قرارٍ سريع بناءً على ذلك؛ لأن عدد الاحتمالات الممكنة في لعبة جو أكبر بكثير من تلك التي في لعبة الشطرنج، ومن المستحيل حسابها كلها ضمن فترةٍ زمنية قصيرة. ما قامت به جوجل هو بناء برنامج ألفا جو اعتماداً على نموذج التعلم العميق، ومن ثم تم تدريبه مراتٍ عديدة حتى تمكن من تطوير طريقته الخاصة في ممارسة اللعبة، وهكذا فإنه يمكن وصف برنامج ألفا جو على أنه برنامج ذكاء اصطناعي قائم على طرق تعلم الآلة وتحديداً التعلم العميق.
اقرأ أيضا: