اتجهت الصين، أكبر دولة شيوعية في العالم وأكبر مصدر للتلوث المناخي بالعالم، إلى تبني نهج السوق الحرة لمكافحة انبعاثات الكربون، وفي أواخر العام الماضي أعلنت الحكومة الصينية خططاً طال انتظارها لبرنامج وطني لتحديد الانبعاثات وتداولها، بعد عدة سنوات من المشاريع الإقليمية الرائدة.
وقد دافع أنصار الَطاقة النظيفة عن إنشاء أكبر سوق للكربون على مستوى الأرض، والذي سيبلغ حجمه ضعف حجم سوق الاتحاد الأوروبي.
لكن المؤشرات المبكرة تشير إلى أن الصين تسلك نهجا حذراً للغاية، خوفاً من تقويض النمو الاقتصادي. ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى تأخير الحد الحقيقي من الانبعاثات إلى ما بعد العقد المقبل.
إن نجاح البرنامج الصيني أو فشله في النهاية ستكون له توابعه، لأن البلاد تصدر أكثر من ربع ثاني أكسيد الكربون في العالم، مع استمرار ارتفاع المستويات بأسرع معدل لها منذ سنوات، وفقاً لأحد التحليلات الأخيرة. وسيكون تحقيق أهداف المناخ العالمية شبه مستحيل إذا لم تبدأ الصين في إجراء تخفيضات كبيرة قريباً، وعلاوة على ذلك، قد تؤثر جهود الصين على سلوك الدول الأخرى لنهج مشابهة تعتمد على السوق لخفض التلوث بالكربون.
كتب عالم الاقتصاد في جامعة ستانفورد لورنس جولدر والمشارك في كتابة أحد الأوراق البحثية في وقت سابق من هذا العام: "إن هناك دول كثيرة على مستوى العالم تعول على هذا البرنامج، وإذا أخفقت هذه التجربة، فستوقف جهود تبني برامج تداول الانبعاثات في بقاع كثيرة من العالم".
بداية بطيئة
يصف عدد كبير من الاقتصاديين برامج تحديد الانبعاثات وتداولها بأنها أكثر الطرق فعالية للدول لخفض الانبعاثات.
ففي إطار هذا البرنامج، تقوم هيئة حكومية بمنح أو بيع عدد محدود من البدلات لإصدار غازات الدفيئة (وهذا هو الحد الأقصى للانبعاثات)، ويتاح للشركات التي تنتج انبعاثات أقل من المسموح بها بموجب تراخيصها أن تبيع مخصصات زائدة في حين أن الشركات التي تريد تجاوز الحد المسموح لها من الانبعاثات يلزمها أن تشتري المزيد من طرف آخر (وهذا هو التداول).
ويضع المخطط بالأساس ثمناً لانبعاثات الكربون، مما يمنح حوافز مالية للشركات لخفض التلوث، ورغم أن الكلام النظري يبدو جيداً، إلا أنه لم يطبق سوى عدد قليل من هذه البرامج، بما في ذلك ما طبق في كاليفورنيا وأوروبا الذين حققا نتائج متواضعة للغاية حتى هذه اللحظة.
وبموجب الخطة التي أعلن عنها في ديسمبر، ستقضي الصين عاماً في بناء نظام وطني للإبلاغ ونظام آخر لإجراء عمليات التداول والتحليل "المحاكية"، مما سيؤخر التنفيذ الفعلي إلى عام 2020 على الأقل.
كانت المفاجأة الكبرى في الإعلان هي تراجع الحكومة عن الخطط السابقة للبرنامج التي كانت تشمل مجموعة من الصناعات، فبدلاً من ذلك سوف تغطي الخطط في البداية قطاع الطاقة فقط، ثم تتوسع إلى قطاعات أخرى مثل البتروكيماويات ومواد البناء والطيران "عندما تتيح الظروف ذلك" حسبما ورد في إحدى ترجمات الاعلان. وغالب الظن أن هذه الصناعات الأخرى والهيئة التي تمثل المؤسسات المملوكة للدولة اعترضت بشدة على إدراجها في المرحلة الأولى، وقد عزز التباطؤ الاقتصادي الأخير في البلاد من موقفهم.
من المؤكد أن قطاع الطاقة في الصين لا يزال يشكل سوقاً ضخمة للكربون، حيث يصدر حوالي ثلاثة جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون في كل عام، أو ما يقرب من 8 في المائة من الانبعاثات العالمية، وفقاً لتعليق "جديد" نشرته دورية "نيتشر كلايمِت تشينج"Nature Climate Change) )، وإذا انتهى الأمر بإدماج البرنامج للصناعات الأخرى المخطط لها، فسوف يضيف ما يصل إلى خمسة جيجا طن سنوياً متفوقاً على مخطط التجارة في الاتحاد الأوروبي الذي يغطي 1.8 جيجا طن فقط.
طموح محدود
تخصص جميع برامج تحديد الانبعاثات وتداولها حتى الآن تقريباً في نهاية المطاف التصاريح عبر المزادات وتحدد سقفاً مطلقاً لإجمالي الانبعاثات.
ولكن على الأقل كخطوة أولى، من المتوقع على نطاق واسع أن تحد الصين من كمية ثاني أكسيد الكربون التي ينتجها مصنع ما لكل وحدة من الكهرباء؛ على سبيل المثال لكل ميجاوات / ساعة من الكهرباء المنتجة، ويعتقد أن المعايير الدقيقة ستختلف أيضاً وفقاً لعوامل مثل حجم المصنع ومصدر الوقود.
وبعبارة أخرى، تستطيع شركات الطاقة أن تزيد من إجمالي الانبعاثات عند تشغيل المحطات الجديدة، طالما صارت محطاتها أنظف في المتوسط ضمن فئاتها.
وفي هذا الصدد يقول هو سليتر، كبير المستشارين لدى شركة أي سي إف (ICF) الاستشارية التي عملت مع الحكومة الصينية وشركات الطاقة الصينية، أن هذا النهج يعكس حقيقة استهداف الحكومة في الوقت الحالي لخفض معدل الزيادة في الانبعاثات بدلاً من تحقيق تخفيضات مطلقة.
كما أنه يسمح بالنمو الاقتصادي ويحد من الخسائر المالية في صناعات مثل قطاع الكهرباء في الصين، التي لا يمكنها تحميل تكاليف الكربون الأعلى على المستهلكين النهائيين.
ورغم أن هذا النهج سيشجع مشغلي المصانع على تحسين كفاءة المصانع، إلا أنه "سيضعف أو يلغي مبادرات الانتقال من الفحم إلى الغاز أو الطاقة المتجددة"، وفقاً لما ورد في ورقة بحثية نشرتها دورية "نيتشر كلايمِت تشينج".
ويرى الكاتبان أن أداء "دور بارز" في خفض الانبعاثات قد يتطلب التحول إلى نظام قائم على المزادات، وتوسيع نطاق البرنامج ليشمل قطاعات أخرى، واتخاذ خطوات أخرى لضمان ارتفاع سعر الكربون بما فيه الكفاية. ومن المتوقع أن تنتقل الصين في نهاية المطاف إلى منهج المزادات وستتبنى على الأقل حداً أقصى غير رسمي للانبعاثات، غير أن تفعيل هذا النهج قد يتطلب إصلاحات أوسع في السوق.
ومن المحتمل أن يتضمن ذلك الابتعاد عن إدارة الحكومة لخطط الأسعار وخطط التوليد والتوجه نحو أسواق الطاقة الفورية، حيث تتغير الأسعار في وقت قريب من الوقت الفعلي حال اتفاق مشغلي المولدات ومشغلي الشبكات على تلبية الطلب الفوري.
ويقول مايكل ديفيدسون، الباحث في كلية هارفارد كينيدي، والذي يدرس أسواق الكهرباء في الصين، أن الأمر قد يستغرق عقداً آخر على الأقل من أجل ترسخ هذا المستوى من التحرير على نطاق واسع، مضيفاً: "إذا أردت تفعيل سوق الكربون في مجال الكهرباء، فالشرط الأساسي هو وجود سوق فورية، ونظراً لأن هذه فكرة غير عادية، فلن يكون لها تأثير كبير".
وفي الوقت نفسه وبالنظر إلى القضايا السابقة المتعلقة بالشفافية البيئية والنفوذ الكبير لبعض الشركات المملوكة للدولة، ستواجه الصين مجموعة تحديات مختلفة في إنشاء نظام وطني لكشف الشركات التي تتجاوز مخصصاتها ومعاقبتها.
إدارة التوقعات
على الرغم من هذه العقبات، من الواضح لمعظم المراقبين أن الرئيس الصيني شي جين بينع جاد في خفض الانبعاثات وإبراز الصين كدولة رائدة على مستوى العالم في قضايا المناخ والطاقة، وذلك بدافع القلق على تلوث الهواء والطاقة المحلية والأمن القومي والتنمية الاقتصادية.
قد تكون الصين تمضي بحذر في تأسيس برنامج تحديد الانبعاثات وتداولها، لكن الحكومة تستطيع تسريع وتيرة هذه الجهود إذا كانت النتائج المبكرة واعدة، أو تبديل التكتيكات إذا لم تكن كذلك.
وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن المراقبين الخارجيين علقوا آمالاً كبيرة على البرنامج، إلا أن قادة الصين يرون أنه مجرد تدبير من بين "مجموعة من التدابير السياسية" للوفاء بالتزامات باريس بالوصول إلى أعلى نسبة من الانبعاثات بحلول عام 2030، على حد تعبير جيف سوارتز مدير سياسات المناخ وأسواق الكربون في شركة ساوث بول (South Pole) الاستشارية.
وفي ظل الانتشار القوي للمصادر المتجددة وانخفاض معدلات استخدام الفحم والخطوات الأخرى، فقد تكون الصين بالفعل في طريقها لأن تنجز ذلك قبل الموعد النهائي.