هل دماغك هو بمثابة جهاز كمبيوتر؟

6 دقائق
الدماغ والكمبيوتر
حقوق الصورة: آغساندرو/ شتر ستوك.

تعود هذه المقارنة إلى بداية عصر الكمبيوتر، فمنذ أن اكتشفنا أن الآلات يمكنها حل المشكلات عن طريق معالجة الرموز، ما زلنا نتساءل عما إذا كان الدماغ يعمل بطريقة مماثلة.

على سبيل المثال، تساءل آلان تورينغ عما قد تحتاجه ⁧⁩الآلة "للتفكير"⁧⁩، حيث كتب في عام 1950 متوقعاً أنه بحلول عام 2000، "سيكون المرء قادراً على التحدث عن تفكير الآلات دون أن يتوقع أن يعارضه أحد".

إذا كان بإمكان الآلات أن تفكّر مثل أدمغة الإنسان، فمن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت الأدمغة تعمل كالآلات. طبعاً، لن يخلط أحد بين المادة اللزجة الموجودة في الدماغ وبين وحدة المعالجة المركزية الموجودة داخل الكمبيوتر المحمول، ولكن بغض النظر عن الاختلافات السطحية، فقد تم اقتراح وجود أوجه تشابه مهمة. واليوم، وبعد كل هذه السنوات، ينقسم الخبراء حول الأمر.

على الرغم من أن الجميع يتفقون على أن ⁧⁩أدمغتنا البيولوجية هي التي تقف وراء وعي عقولنا⁧⁩، إلا أنهم منقسمون حول الدور، في حال وجوده، الذي تلعبه معالجة المعلومات، وهو تشابه جوهري يُفترض أن تشترك فيه الأدمغة وأجهزة الكمبيوتر. وقد يبدو النقاش أكاديمياً بعض الشيء، إلا أن له في الواقع بعض التداعيات في العالم الحقيقي، فالجهود المبذولة لبناء آلات تتمتع بذكاء ⁧⁩شبيه بذكاء البشر⁧⁩ تعتمد جزئياً على الأقل على فهم كيفية عمل أدمغتنا، ومدى تشابهها أو عدمه مع الآلات.

إذا كان من الممكن إثبات أن الأدمغة تعمل بطريقة تختلف اختلافاً جذرياً عن الكمبيوتر، فسوف يثير ذلك تساؤلات حول العديد من الأساليب التقليدية للذكاء الاصطناعي.

وقد يجسّد السؤال أيضاً إحساسنا بما نحن عليه. طالما أن الأدمغة، والعقول التي تمكّنها، تعتبر فريدة من نوعها، فقد تتخيل البشرية نفسها بأنها مميزة جداً بالفعل. ولكن النظر إلى أدمغتنا على أنها ليست أكثر من مجرد آلات حسابية متطورة يمكن أن يؤدي إلى تلاشي تلك النظرة.

لقد طلبنا من الخبراء أن يخبرونا لماذا يعتقدون أنه ينبغي أو لا ينبغي علينا النظر إلى الدماغ على أنه "شبيه بالكمبيوتر".

اقرأ أيضاً: هل يمكن امتلاك الذكاء الاصطناعي فعلياً دون أن نفهم الدماغ البشري أولاً؟

الرأي المعارض: لا يمكن للدماغ أن يكون جهاز كمبيوتر لأنه يتمتع بالحيوية

يتفق الجميع على أن المواد الفعلية الموجودة داخل الدماغ، والتي "تطورت" على مدى مليارات السنين، تختلف تماماً عن المواد التي يضعها مهندسو شركتي آي بي إم وجوجل داخل جهاز الكمبيوتر المحمول أو الهاتف الذكي.

أولاً، تعتبر الأدمغة تناظرية. إذ تسلك مليارات الخلايا العصبية الموجودة في الدماغ سلوكاً مختلفاً تماماً عن المفاتيح الرقمية والبوابات المنطقية الموجودة في الكمبيوتر الرقمي. ويقول عالم الأحياء ماثيو كوب من جامعة مانشستر في المملكة المتحدة: "لقد أدركنا منذ عشرينيات القرن الماضي أن الخلايا العصبية لا تتعرض للتنشيط والتثبيط فقط". ويضيف: "مع زيادة التحفيز، تزداد الإشارة. تختلف الطريقة التي تتصرف بها الخلايا العصبية عند تحفيزها عما هي عليه في أي جهاز كمبيوتر قمنا بتطويره".

يتفق بليك ريتشاردز، عالم الأعصاب والكمبيوتر في جامعة ماكغيل في مونتريال، مع ذلك بقوله إن الأدمغة "تعالج كل شيء بالتوازي وفي وقت مستمر" بدلاً من فترات منفصلة. في المقابل، تتبنى أجهزة الكمبيوتر الرقمية اليوم تصميماً محدداً للغاية يعتمد على ⁧⁩هيكلة فون نيومان⁧ الأصلية. إنها تعمل إلى حد كبير من خلال الانتقال خطوة بخطوة عبر قائمة التعليمات المشفرة في بنك الذاكرة، وذلك أثناء الوصول إلى المعلومات المخزنة في فتحات الذاكرة المنفصلة. ويقول ريتشاردز: "لا شيء من ذلك يشبه ما يحدث في دماغك".

(ومع ذلك، لا يزال الدماغ يثير المفاجآت: ففي السنوات الأخيرة، ⁧⁩قال⁧⁩ بعض علماء الأعصاب إنه حتى الخلايا العصبية الفردية يمكنها إجراء أنواع معينة من العمليات الحسابية بطريقة يمكن تشبيهها بما يسميه علماء الكمبيوتر XOR، أو وظيفة "بوابة الفصل الإقصائي").

اقرأ أيضاً: الدماغ البشري يُقدم مصدر إلهام جديد لتعزيز ذاكرة الذكاء الاصطناعي

الرأي الداعم: بالتأكيد يمكن ذلك! إن البنية الفعلية لا علاقة لها بالأمر

لكن ربما يكون ما تفعله الأدمغة وأجهزة الكمبيوتر هو نفسه في الأساس، حتى لو كانت بنيتها مختلفة. تقول ميغان بيترز، عالمة الإدراك بجامعة كاليفورنيا في إيرفاين: "يمكن وصف ما يبدو أن الدماغ يقوم به بأنه معالجة للمعلومات. يتلقى الدماغ دفقات (وهي دفعات قصيرة من النشاط تدوم حوالي عُشر ثانية) وموجات صوتية وفوتونات ويحولها إلى نشاط عصبي، وهذا النشاط العصبي يمثل معلومات".

ومع ذلك، يعتقد ريتشاردز، الذي يتفق مع كوب على أن الأدمغة تعمل بشكل مختلف تماماً عن أجهزة الكمبيوتر الرقمية اليوم، أن الدماغ هو بمثابة كمبيوتر في الواقع. يقول ريتشاردز: "وفقاً لاستخدام المصطلحات في علوم الكمبيوتر، فإن الكمبيوتر هو مجرد جهاز يمكنه تنفيذ العديد من الوظائف الحسابية المختلفة". من خلال هذا التعريف، فإن "الدماغ ليس مجرد جهاز كمبيوتر. بل هو جهاز كمبيوتر بشكل حرفي". يردد مايكل غرازيانو، عالم الأعصاب بجامعة برينستون، هذا الرأي. ويقول: "هناك مفهوم أوسع لتعريف الكمبيوتر، باعتباره شيئاً يتلقى المعلومات ويعالجها، ويختار المخرجات بناءً على هذا الأساس. وتعريف "الكمبيوتر" وفق هذا المفهوم الأشمل يتفق مع ما هو عليه الدماغ، فهذا هو ما يقوم به".

لكن أنثوني كيميرو، عالم الإدراك والفيلسوف بجامعة سينسيناتي، يعارض هذا الرأي. ويقول: "على ما يبدو، ما حدث هو أننا قمنا بمرور الوقت بإضعاف فكرة الحوسبة بحيث أصبحت لا تعني شيئاً بعد الآن. نعم، يقوم دماغك بتلك الأمور، ويساعدك على معرفة الأشياء، لكن ذلك لا يعدّ حوسبة حقاً".

قد لا تكون أجهزة الكمبيوتر التقليدية شبيهة بالدماغ، ولكن الشبكات العصبية الاصطناعية هي كذلك

تنطوي جميع الإنجازات الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي اليوم على ⁧⁩شبكات عصبية اصطناعية⁧⁩، والتي تستخدم "طبقات" من المعالجة الرياضية لتقييم المعلومات التي يتم تلقيها.

يتم وضع أوزان للارتباطات بين الطبقات (كرقم يتوافق مع أهمية كل ارتباط بالنسبة إلى الارتباطات الأخرى، مثل كيفية قيام الأستاذ بوضع درجة نهائية بناءً على سلسلة من نتائج الاختبارات ولكنه يضع وزناً أكبر للاختبار النهائي). يتم ضبط هذه الأوزان عندما تتعرض الشبكة لمزيد من البيانات، إلى حين صدور مخرج عن الطبقة الأخيرة.

خلال السنوات الأخيرة، تمكنت الشبكات العصبية من التعرف على الوجوه، ⁧⁩وترجمة اللغات⁧⁩، وحتى محاكاة ⁧⁩خط الإنسان في الكتابة⁧ بطريقة خارقة. يقول ريتشاردز: "إن الشبكة العصبية الاصطناعية هي في الأساس مجرد نموذج حسابي للدماغ. إنها طريقة لمحاولة محاكاة الدماغ دون الإشارة إلى التفاصيل البيولوجية الخاصة بكيفية عمل الدماغ".

ويشير ريتشاردز إلى أن ذلك كان هو الهدف الصريح لرواد الشبكات العصبية مثل فرانك روزنبلات وديفيد روميلهارت ⁧وجيفري هينتون⁧⁩، بقوله: "لقد كانوا مهتمين على وجه التحديد بمحاولة فهم الخوارزميات التي يستخدمها الدماغ للقيام بالوظائف التي ينجح في حوسبتها".

طور العلماء مؤخراً شبكات عصبية ⁧⁩يُذكر أن وظائفها تشبه إلى حد كبير وظائف دماغ الإنسان الحقيقي⁧⁩. أحد هذه الأساليب هو الترميز التنبؤي ويعتمد على فرضية أن الدماغ يحاول باستمرار التنبؤ بالمدخلات الحسية التي سيتلقاها بعد ذلك مباشرة. تتمثل الفكرة في أن "مواكبة" العالم الخارجي بهذه الطريقة تعزز من فرص الدماغ في البقاء، وهو أمر ناتج عن الانتقاء الطبيعي.

تلقى هذه الفكرة قبولاً لدى غرازيانو. ويقول: "إن الغرض من وجود الدماغ هو الحركة، أي القدرة على التفاعل الجسدي مع العالم الخارجي. هذا ما يفعله الدماغ. هذا هو السبب الجوهري لوجود الدماغ لديك. يتمثل ذلك في القيام بتنبؤات".

حتى لو كانت الأدمغة تعمل مثل الشبكات العصبية، فإنها لا تعتبر وسائل لمعالجة المعلومات. لا يعتقد الجميع أن الشبكات العصبية تدعم فكرة تشابه أدمغتنا مع أجهزة الكمبيوتر. تتمثل إحدى المشكلات في أنها ⁧⁩غامضة⁧، فعندما تحل الشبكة العصبية مشكلة ما، فقد لا تكون كيفية حلها للمشكلة واضحة على الإطلاق، مما يجعل من الصعب القول بأن طريقتها كانت شبيهة بطريقة عمل الدماغ بأي شكل من الأشكال.

ويقول كيميرو: "إن الشبكات العصبية الاصطناعية التي يعمل عليها الآن أشخاص مثل هينتون معقدة للغاية لدرجة أنه حتى لو حاولت تحليلها لمعرفة الأجزاء التي تخزن معلومات حول أمر ما، وما الذي يعتبر معالجة لتلك المعلومات، فلن تكون قادراً على القيام بذلك. كلما زاد تعقيدها، أصبحت أكثر غموضاً".

لكن المدافعين عن تشبيه الدماغ بالكمبيوتر يقولون إن ذلك غير مهم. يقول غرازيانو: "لا يمكنك الإشارة إلى الواحدات والأصفار.
فهي موزعة وفق نمط ارتباط تم إدراكه من بين كل تلك الخلايا العصبية الاصطناعية، لذلك من الصعب الحديث بدقة عن ماهية المعلومات ومكان تخزينها وكيف يتم تشفيرها، لكنك تعلم أنها موجودة".

اقرأ أيضاً: علماء الكمبيوتر يرغبون في محاكاة أداء الدماغ البشري باستخدام الشبكات العصبونية

لا بدّ من أن يكون الدماغ جهاز كمبيوتر، فالخيار الآخر هو أن يكون سحراً

يقول ريتشاردز إنك إذا كنت متمسكاً بفكرة أن الدماغ المادي هو الذي يؤدي إلى العقل، فإن الحوسبة هي المسار الوحيد الملائم. ويضيف: "الحوسبة تعني الفيزياء فقط. الخيار الآخر الوحيد هو اقتراح نوع من الأرواح السحرية أو شيء من هذا القبيل ... هناك خياران فقط: إما اتباع خوارزمية أو استخدام السحر".

قول مخالف: لا يمكن لفكرة تشبيه الدماغ بالكمبيوتر أن تشرح كيفية استخلاص المغزى

بغض النظر عن مدى تعقيد الشبكة العصبية، فإن المعلومات التي تتدفق عبرها لا تعني شيئاً في الواقع، كما يقول رومين بريت، المتخصص في علم الأعصاب النظري في معهد الرؤية في باريس.

على سبيل المثال، قد يدرك برنامج التعرف على الوجوه وجهاً معيناً على أنه وجهي أو وجهك، ولكنه لا يقوم في النهاية سوى بتتبع الارتباطات بين مجموعتين من الأرقام. ويقول: "ما زلت بحاجة إلى شخص لفهم الأمر والتفكير والإدراك". وهذا لا يعني أن الدماغ لا يعالج المعلومات، فربما يفعل ذلك.

تقول ليزا ميراتشي، الفيلسوفة بجامعة بنسلفانيا: "ربما تكون الحوسبة مهمة جداً في تفسير العقل والذكاء والوعي". ومع ذلك، فهي تؤكد على أن ما يفعله الدماغ وما يفعله العقل ليسا بالضرورة نفس الشيء. وحتى لو كان الدماغ يشبه الكمبيوتر، فقد لا يكون العقل كذلك، وتضيف: "العمليات العقلية ليست عمليات حسابية، لأنها ذات مغزى بطبيعتها، في حين أن العمليات الحسابية ليست كذلك". إذن، فما موقفنا من كل هذه الآراء؟

يبدو أن مسألة ما إذا كان الدماغ يشبه الكمبيوتر أم لا تعتمد جزئياً على ما نعنيه بكلمة "كمبيوتر". ولكن حتى لو اتفق الخبراء على تعريف، فمن غير المرجح أن يتم حل السؤال في أي وقت قريب. قد يعود السبب في ذلك إلى أنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشكلات الفلسفية الشائكة، مثل ما يسمى بمشكلة العقل والجسد ولغز الوعي.

نحن نتجادل حول ما إذا كان الدماغ شبيهاً بالكمبيوتر لأننا نريد أن نعرف كيف تكوّنت العقول. نريد أن نفهم ما الذي يسمح بحدوث بعض ترتيبات المادة دون بعضها الآخر، وما الذي لا يسمح بمجرد الوجود فحسب، ولكن بالشعور أيضاً.