هناك الكثير من الطرق المؤدية إلى الموت، وهو حق على الجميع، ولكن مع تحول التغير المناخي إلى "المعيار السائد الجديد"، فقد توسعت هذه اللائحة حتى تشمل بعض العناصر الجديدة المثيرة للقلق. فقد تزايدت وتيرة العواصف الخارقة التي تكتسح تجمعاتنا السكانية بقوة. كما التهمت الحرائق البرية مناطق شاسعة من الغابات، وحولت بلدات كاملة إلى رماد. أما الفيضانات فهي تضرب أبنيتنا وتحتّها وتبتلعها.
الحرارة: عامل مناخي جديد يهدد أجسادنا بالموت طهواً
أما العنصر الجديد في هذه القائمة البهيجة: فهو الحرارة المرتفعة التي تطهونا أحياء، والتي لا التي يستطيع الجسم احتمالها.
ففي يونيو/تموز المنصرم، ضربت موجة حارة قاتلة النصف الغربي من أميركا الشمالية، ما أدى إلى مقتل المئات في منطقة المحيط الهادي الشمالية الغربية، وأوصل الحرارة في كندا إلى أعلى مستوى مسجل في تاريخها. غير أن هذا لم يكن مجرد حادثة عابرة، فقد تعرضت الهند وباكستان أيضاً إلى ضربة حرارية حطمت الأرقام القياسية في نفس الوقت، ومؤخراً، أدت موجة حارة أخرى إلى رفع درجة الحرارة فوق 38 درجة مئوية في معظم مناطق الولايات المتحدة
إذاً، ما المشكلة؟ إذ فليس من المستغرب أن يكون الصيف حاراً. إذن، لماذا تُعتبر هذه الموجات الحارة الجديدة مختلفة، ومميتة للغاية؟
اقرأ أيضاً: تقرير: خفض نصف انبعاثات الكربون العالمية يتطلب تكنولوجيا غير متاحة تجارياً
لماذا تُعتبر الموجات الحارة الجديدة مختلفة وممتية؟
إذا استمرينا بحرق الوقود في سياراتنا رباعية الدفع، وحرق الفحم والغاز في محطات توليد الطاقة، وحرق حجر الجير في أفران صنع الإسمنت، وحرق الغابات الاستوائية في بطوننا (على شكل قطع البرغر من البرازيل وزيت النخيل من إندونيسيا)، فإن الحرارة في كافة أنحاء الكوكب ستتجاوز حدود قدرة الجسم البشري على التحمل عدة مرات في السنة، وسيحدث هذا في كل سنة.
ولتقريب الصورة، يمكن أن نتخيل أن مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون ستتعرض بشكل متكرر إلى حرارة تقارب حرارة وادي الموت في الصيف.
ولكن، وكما يُقال في وادي الموت، "إنها حرارة جافة". فمن سيعترض على الاستمتاع ببضعة أيام ربيعية معتدلة في مدينة بالم سبرينغز بولاية كاليفورنيا بعد شتاء طويل وبارد ورطب؟
فهذه المدينة، بالم سبرينغز، لا تبعد عن وادي الموت سوى بضع ساعات جنوباً، وهي تقع في الصحراء أيضاً. وبوجود ما يكفي من الماء والظل لتجنب الإصابة بضربة الشمس، يستطيع البشر البقاء على قيد الحياة لعدة ساعات في الحرارة الجافة حين تصل درجة الحرارة إلى 48 درجة مئوية. (بطبيعة الحال، لا ينصح الأطباء بإجراء هذه التجربة).
وبالانتقال عبر القارة إلى مدينة بالم بيتش في فلوريدا، سنجد وضعاً مختلفاً تماماً. بوجودها في المناطق الاستوائية، وهي إحدى أكثر المناطق رطوبة في نصف الكرة الغربي، فإن يوماً واحداً تصل فيه الحرارة إلى 48 درجة مئوية في بالم بيتش يمثل حدثاً كارثياً يؤدي إلى العديد من الإصابات. سوف تمتلئ المشارح بجثث ضحايا الارتفاع المفرط في الحرارة أو ضربة الشمس، ممن تعرضوا إلى ما يمكن وصفه بعملية طهي قاسية ضمن أجسادهم وهم أحياء.
كيف يمكن تفسير هذا؟ وكيف تؤدي حرارة 48 درجة مئوية في بالم بيتش إلى نتيجة مختلفة تماماً عن حرارة 48 درجة مئوية في بالم سبرينغز؟
الحرارة التي يستطيع الجسم احتمالها تختلف بين المناطق الرطبة والجافة
على ما يبدو، فإن القول المبتذل القديم "ليست المشكلة في الحرارة، بل في الرطوبة"، يحمل شيئاً من الحقيقة. أما علمياً، فإن هذه الظاهرة تحمل اسم "درجة حرارة البصيلة الرطبة"، ويعتبر فهمها أمراً أساسياً للبقاء على قيد الحياة في هذه الأزمة المناخية، والتخفيف من آثارها.
ففي ظل ظروف حرارية معقولة، يتمتع الجسم البشري بفعالية عالية في الحفاظ على درجة حرارة داخلية من 36.1 إلى 37.2 درجة مئوية. وعندما ترتفع الحرارة الخارجية، تقوم أجسامنا بإنتاج العرق، وعندما يتبخر العرق، فإن تحوله من الشكل السائل على البشرة إلى الشكل الغازي يتطلب استهلاك بعض الطاقة. وهذه الطاقة مستمدة من حرارة الجسم، بحيث يؤدي تبخر العرق إلى تبريد الجسم.
ولهذا، فإن الحرارة الجافة مريحة لأن التبخر يحدث بسرعة عالية للغاية لدرجة أنك لا تلاحظ وجود العرق على بشرتك. (ولهذا أيضاً، تمثل الإصابة بالتجفاف خطراً كبيراً في المناخ الصحراوي، فعلى الرغم من أن الهواء الجاف يساعدك على تحمل الحرارة، فإنك أيضاً تخسر الماء من جسمك بشكل متواصل. ولهذا، فإن عبارة "تناول الماء باستمرار لتجنب خطر الموت" ليست مجرد شعار فارغ، بل حقيقة علمية مثبتة).
والآن، لنفترض أنك في بالم بيتش، حيث تبلغ الحرارة نفس الدرجة، ولكن الهواء رطب للغاية. إن الهواء يحمل بخار الماء إلى درجة الإشباع. ولهذا، فإن العرق يبقى على جلدك، كما أن الحرارة التي يفترض بالعرق أن يزيلها من جسمك، تبقى داخل جسمك، وتتراكم هناك.
وهذا ما يعني أن جسمك فقد قدرته على التخلص من الحرارة، ولهذا فإن حرارتك الداخلية تبدأ بالارتفاع للوصول إلى حرارة الهواء المحيط بك. وإذا استمرت العملية فترة طويلة بما يكفي، سترتفع حرارة الجسم من درجة 37 المريحة إلى درجة 42 القاتلة.
اقرأ أيضاً: مادة تطلق الحرارة نحو الفضاء قد تعيد اختراع تكييف الهواء
ما هي درجة حرارة البصيلة الرطبة وما علاقتها بالحرارة التي يستطيع الجسم احتمالها؟
ولهذا، فإن الحرارة وحدها لا تكفي لتحديد قدرة الجسم البشري على البقاء على قيد الحياة. بل يجب أن نعرف أيضاً "درجة حرارة البصيلة الرطبة". وكما هو واضح، فإن المصطلح مستوحى من بصيلة ميزان الحرارة الزئبقي الشائع. فإذا غلفت بصيلة ميزان الحرارة بقطعة قماش مبللة ووضعتها في غرفة حارة، فإن تبخر الماء من القماش سيؤدي إلى تخفيض الدرجة المقروءة على الميزان إلى حد أنها تبدو أقل من درجة حرارة الغرفة، أي أن البصيلة "تتعرق" عملياً. ولكن إذا زدت رطوبة الغرفة بما يكفي، فإن حرارة بخار الماء في الهواء ستصل إلى حالة من التوازن مع الماء في القماش المبلل، ما يعني أن التبخر لن يؤدي إلى تخفيض الحرارة. أي أن البصيلة تتعرق، ولكن الزئبق سيستمر بالارتفاع.
وتماثل درجة حرارة البصيلة الرطبة مؤشر الحرارة من حيث تعبيرها عن الأثر المركب للحرارة والرطوبة. ولكنها ليست مماثلة له تماماً. حيث يحاول مؤشر الحرارة التعبير عن "الإحساس" المرافق لتركيبة معينة من الحرارة والرطوبة، وبالتالي فإنه غير دقيق: فقد يكون "الإحساس بأن الحرارة تساوي 45 درجة مئوية" معبراً عن 32 درجة مئوية مع درجة تكثف 22.2 درجة مئوية، أو 45 درجة مئوية دون أي رطوبة. ولهذا، يجب أن تحدد كل هذه الأرقام حتى تستوعب الوضع بدقة، والأهم من ذلك، حتى تتمكن من تقدير الخطر بشكل صحيح. أما درجة حرارة البصيلة الرطبة، من ناحية أخرى، فتعبر عن الخطر بشكل أكثر دقة. وهذا الخطر يزيد يوماً بعد يوم.
ووفقاً لأكثر النماذج المناخية تفاؤلاً، فإن مساحات كبيرة من الولايات المتحدة ستتعرض إلى عدة أسابيع من ارتفاع درجة حرارة البصيلة الرطبة بحلول منتصف هذا القرن، أي خلال 30 سنة. وكما أوردت مجلة "بروبوبليكا" (ProPublica) في سبتمبر/ أيلول: "بحلول العام 2050، ستشهد مناطق الغرب الأوسط ولويزيانا ظروفاً تجعل من الصعب على الجسم البشري تبريد نفسه ليوم واحد من أصل كل 20 يوم في السنة". وخلال هذه الفترات من الحرارة القاتلة، لن يتمكن الظل وشرب الماء من إنقاذك. وسيخيم خطر الموت على أي شخص لا يستطيع استخدام تكييف هوائي موثوق.
ويجب أن تكون الإجراءات المضادة لدرجات حرارة البصيلة الرطبة الخطيرة جزءاً من المعركة ضد التغير المناخي، والاستعداد له.
وهذا ما نعرفه بشكل مؤكد: يمثل الصعود بالمدن إلى الأعلى بدلاً من نشر ضواحيها على مساحات أكبر جزءاً هاماً من حل المعضلة. حيث إن المناطق السكنية الأكثر كثافة تتمتع بانبعاثات كربونية منخفضة للغاية مقارنة بالضواحي ومناطق التطوير العقاري الريفية، كما أنها أقل تكلفة وأكثر فعالية من حيث توصيل الطاقة وخدمات التبريد إلى الناس بسبب قربهم من بعضهم البعض، مقارنة بالأشخاص الذين يسكنون مساحات كبيرة بشكل متباعد.
وعلى حين يوجد الكثيرون ممن يعارضون ظلال المباني الطويلة حرصاً على إطلالات منازلهم وقيمتها العقارية، فإن مدننا بحاجة ماسة، في الواقع، إلى المزيد من ظلال الأشجار والمباني الطويلة لتخفيف الآثار الحرارية للتجمعات الحضرية، وتأمين بعض الحماية من شمس الظهيرة، إضافة إلى توفير عدد أكبر من المنازل بطبيعة الحال.
أما الإجراء الأهم فيبقى التخفيف من التلوث المناخي، وبشكل خاص التلوث الصادر عن السيارات العادية والسيارات رباعية الدفع. حيث إن تخفيف استخدام السيارات واستخدام المساحات المخصصة للسيارات لزيادة أعداد المنازل والأشجار ووسائل النقل العام سيجعل المدن أكثر برودة في المدى القصير والبعيد. وبغض النظر عما يمكن أن نحققه في مجال التكنولوجيا النظيفة، فيجب أن ننهي تجربة استخدام السيارات والانتشار على مساحات واسعة، والتي باءت بفشل ذريع بعد 75 سنة.
فقدرتنا على البقاء على قيد الحياة في مواجهة موجات الحر في المستقبل، بل والحاضر، تعتمد على هذا.
فيوتشر تينس هو مشروع مشترك بين مجلة "سليت" (Slate) ومؤسسة "نيو أميركا" (New America) وجامعة أريزونا الحكومية، وذلك لدراسة التكنولوجيات الناشئة والسياسات العامة والمجتمع.