فترة الحجر الصحي كانت أطول فترة هدوء في التاريخ البشري المعروف

4 دقائق
مصدر الصورة: غيتي إيميدجيز

عندما بدأ الإغلاق في مارس، أطبق صمتٌ غريب على العالَم بشكل فوري؛ إذ فرغت شوارع المدن، واختفى المهرولون والعائلات من الحدائق، وتجمدت مشاريع البناء، وأغلقت المتاجر أبوابَها.

واليوم، قامت شبكة من محطات رصد الزلازل حول العالم بالتحديد الكمي لفترة الهدوء غير المسبوقة هذه. لقد أظهر البحث الناتج حول "الصمت الزلزالي" -المنشور في مجلة ساينس يوم 23 يوليو- مقدارَ الضجيج الذي نضيفه إلى البيئة. كما سمح للعلماء بالحصول على فرصة استماع لا مثيل له لما يحدث تحت أقدامنا.

يقول رافاييل دي بلاين من جامعة المكسيك الوطنية المستقلة في كويريتارو، أحد مؤلفي البحث البالغ عددهم 76 مؤلفاً: "يمكننا القول بثقة إنه في علم الزلازل الحديث لم نشهد مثلَ هذه الفترة الطويلة من الهدوء البشري".

غالباً ما يرتبط الضجيج الزلزالي، أو اهتزازات الأرض، بالزلازل. لكن علم الزلازل يهتم أيضاً بالاستماع إلى التفاعل بين الأرض والمياه، ويتتبع أموراً من قبيل أمواج المحيطات وتغيرات الضغط الجوي.

يشكل البشر ثالثَ أكبر مصدر للضجيج الزلزالي؛ حيث إن الأنشطة الحضَرية اليومية مثل التنقلات أو الملاعب المليئة بالمشجعين الذين يعبرون عن حماستهم في وقت واحد فيما يسمى "زلازل كرة القدم"، تبلغ درجةً كافية من القوة لتلتقطها مقاييس الزلازل وتسجلها.

تقول إحدى مؤلفات البحث، بولا كوليميجر من جامعة رويال هولواي في لندن: "تشمل هذه الأنشطة وسائل النقل مثل السيارات والقطارات والحافلات وحركة المرور الناجمة عنها، وتشمل أيضاً تجارة التجزئة والترفيه، ولا يساهم فيها الأشخاص الذين يذهبون للتسوق فحسب، ولكن أيضاً أولئك الذين يتوجهون إلى المتنزهات. بالإضافة إلى أماكن العمل والتجمعات السكنية".

في الظروف العادية، يندمج هذا الضجيج البشري مع النشاط الزلزالي الطبيعي ويكتم صوته. وحتى اليوم، كان من الصعب تحديد مدى تأثير سلوكنا على مستويات هذا الضجيج الخلفي،ـ لكن الإغلاق أتاح فرصة فريدة للباحثين، ليس فقط لمراقبة النشاط البشري، ولكن أيضاً لسماع الضجيج الزلزالي الذي كان سيُفقد صوته لولا الإغلاق.

استخدم الباحثون -ومن بينهم أكاديميون وهواة العلم من المواطنين- البيانات التي تم جمعها من 268 محطة رصد زلزالي حول العالم. تضمنت هذه الأجهزة مقاييس زلازل عالية التقنية موجودة في المؤسسات الأكاديمية، لكن حوالي 40% من البيانات كان مصدرها أجهزة اهتزازات راسبيري (Raspberry Shakes)، وهي أجهزة شخصية لقياس الزلازل قام الهواة ببنائها واستخدامها. وقد استخدمت المجموعة هذه الأجهزة بالتوازي مع بيانات التنقل منزوعة الهوية التي جمعتها جوجل وآبل لرصد حركة البشر. ثم استطاعوا مطابقة بيانات الرصد هذه مع تقارير الضجيج الزلزالي بهدف معرفة احتمال ما إذا كانت الأحداث الزلزالية طبيعية أو ناجمة عن أنشطة البشر.

ومن بين 268 محطة، أظهرت 185 منها -أي ما نسبته 69%- انخفاضاً كبيراً في الضجيج الزلزالي المحيط عالي التردد، وهو مزيج من الضوضاء التي ينتجها الإنسان، والضجيج الطبيعي المحيط بنا. بدأ هذا الصمت في أواخر يناير في الصين، وبحلول منتصف مارس، كان قد أطبق على العالم كله.

وعلى الرغم من أن الفترات الفاصلة بين عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية وحتى رأس السنة الصينية تمثل عادة أكثر الفترات هدوءاً، إلا أن الفرق كان أكثر وضوحاً هذه المرة. على سبيل المثال، شهدت سريلانكا انخفاضاً بنسبة 50% في الضجيج، وهو أكبر انخفاض تمكن الباحثون من قياسه. وفي حين تكون أيام الأحد في سنترال بارك في نيويورك مفعمة بالحيوية عادةً، لكن تم تسجيل انخفاض بنسبة 10% في أرقام فترة الإغلاق مقارنة بالأسابيع السابقة مباشرة. حتى أن المستشعرات المدفونة عميقاً تحت سطح الأرض قد التقطت الانخفاض المفاجئ في النشاط البشري فوق السطح، وتمكَّن مرصد ألماني يقع على عمق 152 متراً تقريباً تحت الصخور من تسجيل انخفاض في الاهتزازات بمجرد أن تم تطبيق الإغلاق.

تقدمة من: تي. لوكوك وزملاؤه

كما سلطت أنماط الضجيج الضوءَ على الهجرة البشرية؛ حيث يقول دي بلاين إن الحدود المكسيكية الأميركية أظهرت زيادة في الضجيج الزلزالي البشري، على الرغم من أن جانبي الحدود كانا هادئين إذا ما استثنينا النشاط البشري. علاوة على ذلك، استطاعت أجهزة رصد الزلازل الخاصة بالمواطنين الهواة التقاطَ الانخفاضات الملحوظة في الضجيج حول المدارس والجامعات.

كانت الدراسة في حد ذاتها إحدى إفرازات الوباء؛ فقد كان المؤلف الرئيسي توماس لوكوك، عالم الزلازل في المرصد الملكي في بلجيكا، في خضم كتابة رماز برمجي يساعد في تشكيل فهم أفضل لكيفية الفصل بين الضوضاء التي يولدها البشر والضجيج الزلزالي. وفي البداية، تبادل لوكوك رسائل مباشرة على تويتر مع بعض الزملاء، وقاموا بالتنسيق عبر مجموعات واتساب قبل إنشاء مجموعة سلاك في 1 أبريل لتنظيم التعاون في أبحاثهم. وقامت مجموعة سلاك هذه- مقترنة بالقدرة على الوصول إلى أجهزة اهتزازات راسبيري- بتوسيع البيانات وتعزيزها. ويقول دي بلاين: "إنها حالة نادرة أن نتمكن من نشر نتائج بحثية بعد أقل من أربعة أشهر من العمل".

كما أتاح انخفاض الضجيج البشري للعلماء فرصة الاستماع عن كثب إلى أنشطة الأرض الداخلية وبدقة أكبر من أي وقت مضى، ومن دون أن يكتم البشر أصوات هذه الأنشطة. قد تتيح هذه الفرصة إثراء معرفتنا حول الزلازل، ولا سيما الزلازل الصغيرة في المراكز الحضرية، التي غالباً ما يحجبها الضجيج الزلزالي البشري. وتشكل الزلازل الأصغر أهميةً جوهرية في القدرة على رصد خطوط الصدع، كما تعتبر بمنزلة مؤشرات تنبؤية على احتمال وقوع زلازل أكبر. لقد توافرت الآن بيانات مقارنة بين أيدي العلماء لمساعدتهم في عملهم؛ حيث يقول دي بلاين: "يمكننا الآن دراسة العلاقات بين النشاط البشري وعلم الزلازل، ويمكننا أن نفهم بدرجة عالية من الدقة العواملَ التي تولِّد الضجيج: أهيَ الأرض أم البشر؟".

وبينما نبدأ بالخروج من الإغلاق، يأمل العلماء أن يساعدنا هذا الفهم للضجيج الذي يسببه الإنسان في استيعاب أفضل لكيفية تحركنا وعيشنا من خلال الاستماع فقط.

لا يعني ذلك أن الضجيج البشري قد اختفى بشكل كامل؛ فمقياس الزلازل لدى كوليميجر قد يسجل ارتفاعاً في الضجيج صباحَ بعض الأيام، عندما تصل غسالة أحد الجيران إلى مرحلة الدوران السريع. وتقول إنه حتى في أعماق الفترة الأكثر هدوءاً في تاريخ البشرية، فإن "البيئات البشرية ليست صامتة تماماً على الإطلاق، وسنبقى على الدوام قادرين على التقاط بعض الضجيج".

المحتوى محمي