في سبتمبر عام 2021، ظهر وسم "مناهضو 2010" (anti2010#) على تيك توك وتويتر في فرنسا. انطوى هذا الوسم على حملة حثيثة منسقة شنها تلاميذ بهدف التنمر السيبراني على الأطفال الأصغر سناً الذين تبلغ أعمارهم 10 أو 11 عاماً، ومن هنا جاء رقم 2010 في الوسم، فهو العام الذي ولد فيه هؤلاء. وقد حصد وسم "مناهضو 2010" حوالي 40 مليون زيارة على تيك توك قبل إزالته، لكن السيف سبق العذل، وكان الضرر قد وقع بالفعل. حتى الأطفال الذين لا يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي أصبحوا ضحايا لأنهم كانوا يتعرضون للتنابز بالألقاب والنعوت المهينة في مدارسهم. وقد ساء الوضع إلى درجة أن وزير التعليم الفرنسي جان ميشيل بلانكر اضطر إلى التدخل؛ فأطلق حملة حماية مديناً هذا التنمر السيبراني وواصفاً إياه بأنه "غبي تماماً ويتعارض مع قيمنا".
ما الدافع وراء إطلاق هذا الوسم في المقام الأول؟ تعود جذوره على ما يبدو إلى لعبة الفيديو الشهيرة فورت نايت (Fortnite)؛ حيث تعرض اللاعبون الأصغر سناً للاتهام بعدم الالتزام بقواعد سلوكية وأخلاقية غير مكتوبة خاصة باللعبة. إذا كان ذلك هو السبب الحقيقي حقاً، فقد كان كافياً لإثارة غضب الجموع والتنمر على الآخرين بشكل جماعي.
مشكلات في منصات التواصل الاجتماعي
لا يمثل ما حدث تطوراً مثيراً للقلق وتنبيهاً للأهالي فحسب، بل قد يقدم أيضاً لمحة عما سيحدث مستقبلاً في عالم أكثر اتصالاً من أي وقت مضى بفضل الأجهزة الرقمية. تكمن غاية منصات التواصل الاجتماعي -وفقاً لأهدافها المعلنة- في مشاركة الفرح (إنستقرام وتيك توك) وإقامة الروابط بين الناس (تويتر). وفي حين أن الإنترنت قد تساعد فعلاً في بلوغ هذه الغاية النبيلة، فمن المرجح أن يؤدي نموذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي إلى بعض التأثيرات غير المرغوب فيها.
أظهر تقرير حديث لصحيفة نيويورك تايمز أنه في محاولة من شركة فيسبوك لمواجهة الانخفاض في عدد المستخدمين، قامت بتعديل خوارزميتها لتشجيع التفاعل عبر إضافة المزيد من الردود وليس عبر "الإعجاب" فقط. وبما أن إثارة ردود الفعل يمكن أن تحفز المزيد من التفاعل، فهناك مزاعم تقول إن المنصة قد سمحت بنشر المزيد من المحتوى السلبي والتشهيري. ووفقاً لمصدر داخلي مطلع:
"في حين توفر منصة فيسبوك لمستخدميها فرصة للتواصل والمشاركة والتفاعل، فإن أحد التأثيرات الجانبية المؤسفة هو قدرة المحتوى الضار والمضلل على الانتشار بسرعة فائقة... يخبرنا (نحن العاملون في فيسبوك) الناشطون السياسيون والناشرون أنهم يعتمدون أكثر على السلبية وإثارة المشاعر لتحقيق نشر أوسع لمحتواهم بسبب التغييرات الخوارزمية الأخيرة التي تشجع على إعادة مشاركة المنشورات".
المحدودية الرقمية مشكلة جدية تماماً
إنْ تباينت الآراء حول ما إذا كانت منصات التواصل الاجتماعي مفيدة أم ضارة، فإنها تتفق على أنها أداة بيد الأفراد. لكن هذه الأداة بدأت في استعباد سادتها. إن التكنولوجيا الرقمية لا تقسمنا إلى قبائل وتبخس الحقيقة قدرها فحسب، بل نعتقد أيضاً أنها تفرض علينا "محدودية رقمية". كان من المفترض أن يمنحنا ابتكار الإنترنت وصولاً أكبر إلى كل شيء؛ فهي تتيح الآن الوصول إلى أي شخص في العالم، والشراء من أي مكان حول العالم والاطلاع على ما يحدث في أقصى أصقاع الأرض، وتوفير كل ذلك بشكل فوري. كان من المفترض أن تمثل الإنترنت عاملاً تمكينياً لتوسيع عقولنا ومداركنا.
بيد أننا غالباً ما نشهد نتائج معاكسة؛ فقد أصبح تفكيرنا أضيق أفقاً، ليس أقله بسبب "فقاعات الفلترة" أو "غرف الصدى" التي تعززها التقنيات المتوفرة عبر الإنترنت. ففي حين أنه من السهل على الأفراد السعي للتفاعل مع من يشبههم في طريقة التفكير ويمتلك قيماً مماثلة، فإنهم يواجهون صعوبة متزايدة في الوثوق بأشخاص يحملون قيماً مغايرة لقيمهم. ورغم أن منصات التواصل الاجتماعي -والحق يقال- قد حاولت عكس هذا التوجه؛ حيث حاولت فيسبوك تقديم المزيد من المحتوى الذي يتضمن وجهات نظر مختلفة، لكنها اكتشفت عدم ميل المستخدمين للنقر على هذا المحتوى المتعارض مع آرائهم.
في عالم الإنترنت، أصبحنا محدودي الأفق نتيجة تركيزنا المفرط على "لحظات" و"لقطات" مختارة وحتى منسقة (بل قُل: مزيفة) -صور مثالية للأجسام، والاستمتاع بأوقات سعيدة، والتواجد في محيط صحي- دون أن نمتلك القدرة على التحليل النقدي للسياق الأوسع. إذ كيف -بخلاف ذلك- نفسر ميل "المؤثرين" إلى البث من مواقع ساحرة مثل دبي؟ ورغم أن هذا قد يبدو أمراً عادياً بسيطاً، فإن انتشار مثل هذه المعلومات الزائفة وغير الواقعية يمثل مشكلة جدية تسترعي الاهتمام. حيث تشير الإحصاءات إلى أن فتاتين من كل خمس فتيات تتراوح أعمارهن بين 11 و16 عاماً في المملكة المتحدة قلن إنهن شاهدن صوراً عبر الإنترنت دفعتهن للشعور بعدم الرضا الداخلي أو تراجع ثقتهن بأنفسهن. ويرتفع هذا الرقم إلى النصف عند الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 17 و21 عاماً.
إن المحدودية الرقمية ليست مجرد حالة مما يشبه قصر النظر عبر الإنترنت، بل تمثل حالياً في كثير من الأحيان شكلاً من أشكال الخَدَرالاجتماعي. إذ تحرمنا الاتصالات عبر الإنترنت -بطبيعتها- من معرفة السياق. ونتيجة لذلك، فإننا نفقد تدريجياً ما يسمى بـ "نظرية العقل"، أي عندما نبني في رؤوسنا قصة حول ما يدور في خَلد شخص آخر. وفي حين أننا نستطيع أن نرى في الغالب كيف يتصرف شخص ما عبر الإنترنت، غير أننا نبقى غافلين عن التجارب التي أثرت في سلوكه، وبالتالي تتزايد صعوبة امتلاك نظرية ذهنية حول هذا الشخص. وفي المحصلة، يتلاشى التعاطف بمرور الوقت.
ربما لعب الإغلاق في خضم الوباء دوراً سلبياً في هذا الجانب؛ حيث أدى انعدام التواصل الجسدي إلى إفقادنا بعض المهارات الاجتماعية ودفعنا لتبني سلوكات اجتماعية غريبة. وبالفعل، وجد باحثون من جامعة كوليدج لندن أن 23% من المستجيبين أفادوا بأن علاقاتهم مع رفاقهم أو زملائهم في العمل قد ساءت بسبب الإغلاق.
لم يقتصر التغيير على طريقة تفكيرنا أو مهاراتنا البشرية فحسب، بل طال سلوكنا أيضاً. فعلى عكس الأوضاع التي نتعامل فيها وجهاً لوجه، لا توجد عواقب فورية لسلوكات تفريغ الشحنات العاطفية العدوانية عبر الإنترنت. وفي حين أنه من الأسهل بكثير إبداء سلوك معادٍ للمجتمع عبر الإنترنت، فهذا لا يعني جدلاً أن الجميع يتصرفون على هذا النحو. ومع ذلك، فقد أشارت دراسة حديثة إلى أنه بينما يكون سلوك المضايقة والإزعاج جزءاً من شخصية البعض منذ ولادتهم، فإن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العاديين سوف يلجؤون إلى أسلوب المضايقة عندما يحفز المزاج وسياق المناقشة مثل هذا السلوك.
علاوة على ذلك، لا ينحصر تأثير المحدودية الرقمية على الأفراد والمجتمعات فقط، بل يمكن أن يلحق الضرر أيضاً بالشركات على المدى الطويل. فقد كشفت دراسة جديدة شملت 60 ألف موظف في مايكروسوفت أن التحول إلى العمل عن بُعد جعلهم أقل ترابطاً وأكثر عزلة، مع انخفاض فترة التعاون التي يقضيها الموظفون في الاتصالات عبر المجموعات بنحو 25% من المستوى الذي كان عليه قبل الوباء. حيث تم تضييق نطاق التفاعلات لتقتصر على أقرب المتعاونين. وخلصت الدراسة إلى أن الهيكل التنظيمي الناتج في مايكروسوفت أصبح أقل ديناميكية. وبناء على هذا المنطق، من الممكن إذاً تفويت الكثير من فرص الإبداع وتبلور الأفكار الجديدة.
بالنظر إلى قدرة منصات التواصل الاجتماعي على توظيف الخوارزميات لتغذية آرائنا، ومع قيامنا بدورنا في تغذية هذه الخوارزميات بمدخلات لتعزيز قدرتها على الصمود من الناحية المالية، فمن المرجح ألا يكون التنمر من قبيل "مناهضو 2010" سلوكاً منفرداً فقط، وإنما بداية لسلسلة من السلوكات المعادية للمجتمع. إن ما حدث يشكل دعوة ملحة لنا -حكومات وشركات وأفراداً- لإعادة التفكير، وإعادة تصميم منظومة مقادة بالتكنولوجيا تتسم بملاءمتها للمجتمعات البشرية، منظومة يغمرها التعاطف والتواضع. لا بد لنا من معالجة مشكلة المحدودية الرقمية قبل أن تصبح جزءاً متأصلاً فينا.
* كتّاب هذه المقالة هم مؤلفو الكتاب الذي سيصدر قريباً من إم آي تي برس بعنوان: "إعادة الحشد الكبرى: تصميم عالم أذكى".