إذا قرأت رسالة مارك زوكربيرج حول الخصوصية سترى أهمية الحاجة إلى “تقسيم” فيسبوك

5 دقائق
مصدر الصورة: فيسبوك/ واتس آب/ أوكيولوس/ إنستجرام، إم إس تيك

نشر مارك زوكربيرج رسالة عندما تحولت فيسبوك إلى شركة مساهمة في 2012، وأعلن فيها بكل فخر عن هدف فيسبوك لجعل العالم "أكثر انفتاحاً واتصالاً". حيث ستصبح الشركات أكثر نزاهة، وتصبح العلاقات البشرية أكثر قوة، وتصبح الحكومات أكثر تحملاً للمسؤولية، وكما أورد في هذه الرسالة: "العالم الأكثر انفتاحاً هو عالم أفضل".

أما الآن، يقول الرئيس التنفيذي لفيسبوك أنه غير وجهة نظره جذرياً.

في مقالة من 3,200 كلمة بعنوان "نسخة أكثر خصوصية من شبكات التواصل الاجتماعي" نشرها زوكربيرج على فيسبوك في 6 مارس، يقول إنه يريد "بناء منصة أكثر بساطة تركز أولاً على الخصوصية"، ويكمل قائلاً بشكل يوحي أنه متفاجئ: "أصبح الناس أيضاً أكثر ميلاً إلى التواصل بشكل خاص في ما يشبه غرفة جلوس في العالم الرقمي".

في الحقيقة، فإن مقالة زوكربيرج عبارة عن محاولة للاستحواذ على المزيد من النفوذ تتخفى بلبوس التوبة والندم. وإذا قرأتها بتمعن، فلا مفر من التوصل إلى الاستنتاج التالي: إذا أردنا حماية الخصوصية بأي شكل فعلي، فلا بد من تقسيم فيسبوك.

نمت شركة فيسبوك إلى حد كبير وبسرعة هائلة، لدرجة أنها تتخطى أية محاولة لتصنيفها. فهي صحيفة، ومركز بريد، ومقسم هاتفي. إنها منتدى للجدل السياسي، ومركز بث للأخبار والأحداث الرياضية، وخدمة للتذكير بأعياد الميلاد، وألبوم صور جماعي. إنها تمثل كل هذه الأشياء -وغيرها- مجتمعة، ولذلك فهي ليست أياً منها.

يشبّه زوكربيرج فيسبوك بساحة البلدة. إنها ليست كذلك، بل هي شركة حصدت أكثر من 55 مليار دولار من عائدات الإعلانات في السنة الماضية، بهامش ربح 45%. وهو ما يجعلها إحدى أكثر الشركات ربحاً في تاريخ البشرية، ويجب أن نفهمها على هذا الأساس.

حصدت فيسبوك كل هذه الأموال لأنها تمكنت من تسليع الخصوصية على مستوى غير مسبوق، أي أن تضاؤل الخصوصية هو منتجها الأساسي. لقد جنى زوكربيرج أمواله عن طريق الموازنة ما بين الخصوصية التي يعتقد مستخدمو فيسبوك، البالغ عددهم مليارين، أنهم يتخلون عنها، وما تمكن من بيعه للمعلنين. لم يذكر زوكربيرج أي شيء ذا معنى في مقالته الطويلة حول طريقته للحفاظ على أرباح الشركة في هذه الحقبة الجديدة المفترضة، وهو سبب يكفي حتى ننظر إلى لحظة التجلي هذه بما تستحقه من الشك.

كتب زوكربيرج: "بصراحة، ليست لدينا حالياً سمعة قوية فيما يتعلق ببناء الخدمات التي تحمي الخصوصية". غير أن السؤال الحقيقي ليس حول سمعة فيسبوك، بل نموذج الأعمال الخاص بها. فإذا قامت فيسبوك بتطبيق إجراءات حماية قوية للخصوصية في جميع خدماتها، فلن يبقى لديها شيء يذكر يمكن بيعه للمعلنين، باستثناء الحجم الصرف للمتابعين. قد تُواصل فيسبوك جني الكثير من الأموال، ولكن بمقدار أقل من قبل بكثير.

إن عرض زوكربيرج هو شكل من الاحتيال القائم على الإعلان عن سلعة وتقديم غيرها. وبشكل أساسي، فهو يقترح ما يمكن أن نعتبره نسخة معززة من واتس آب. قد تكون بعض التحسينات جيدة، مثل خوارزميات تشفير أقوى. غير أن بعض المبادئ الأخرى التي يقترحها زوكربيرج قد تركز احتكاره للنفوذ بشكل يثير القلق. حيث أن "منصات المشاركة الخاصة" الجديدة ليست بديلاً عن الشكل الحالي لفيسبوك، بل إضافة إليه، كما يقول: "ستبقى شبكات التواصل الاجتماعي العامة تلعب دوراً هاماً للغاية في حياة الناس"، وهو تأكيد يفتقر للتوازن مع ادعاء غامض بأن "التفاعل مع الأصدقاء والعائلة في شبكة فيسبوك سيصبح تجربة أكثر خصوصية بكثير".

يعتبر زوكربيرج أن الخصوصية شبه مقتصرة على التشفير من الطرف إلى الطرف لمنع المتنصتين من اعتراض الاتصالات، وهو بذلك يتفادى التفكير في نقاط ضعف فيسبوك وأخطائها. لا تقتصر الخصوصية على الحفاظ على الأسرار، بل تتعلق بتأثير تدفق المعلومات على الأفراد والمجتمع. إن محتوى كلامنا والجهة التي نوجهه إليها مسألة سياق. وتعمل شبكات التواصل الاجتماعي على تغيير هذا السياق، وبهذا فهي تغير من طبيعة الخصوصية، بطرق جيدة وسيئة في نفس الوقت. فقد استخدم أخصائيو الدعاية الروس فيسبوك للتأثير على الانتخابات الأميركية في 2016، وربما كان هذا التأثير حاسماً. كما أن القادة العسكريين في ميانمار استخدموا فيسبوك للتحريض على حملة إبادة جماعية للروهينجيا. هذه ليست نتائج فشل في عمليات التشفير، بل هي عواقب أساليب فيسبوك في تقويض الخصوصية.

يقول زوكربيرج في مقالته: "تعطي الخصوصية الناس الحرية حتى يتصرفوا وفق طبيعتهم". هذا الكلام صحيح، ولكنه ناقص. حيث أن النفس البشرية تتطور مع الزمن. ولا تقتصر أهمية الخصوصية على السماح لنا بأن نكون على طبيعتنا في الوقت الحالي، بل تصل أيضاً إلى منحنا المجال الكافي حتى نتطور. وكما كتبت جولي كوهين، بروفسور القانون في جامعة جورجتاون: "إن ظروف ضعف الخصوصية تعيق أيضاً القدرة على الإبداع. يتطلب الإبداع مجالاً للتجريب والتفكير، وهو بذلك ينمو إلى أقصى حد في البيئة التي تقدر وتحفظ هذا المجال". فإذا استمر فيسبوك بإرسال الإشعارات إليك بدون توقف، فسوف يؤدي هذا إلى إشغال قدرتك العقلية بشكل يعيق التفكير والتجريب والتوصل إلى أفكارك الخاصة. وإذا أمطر فيسبوك المتابعين السذج بالمعلومات المزيفة، فهذا يُعتبر أيضاً انتهاكاً للخصوصية. إن التأثيرات التي تعرضت لها الخصوصية على مدى العقدين الماضيين، وكيفية تقدير قيمتها بشكل صحيح، هي أسئلة تتجاوز إدراك زوكربيرج على ما يبدو.

يقول زوكربيرج أن فيسبوك "ملتزمة باستشارة الخبراء ومناقشة أفضل أسلوب للسير قدماً"، وأنها ستتخذ القرارات "بشكل منفتح ومتعاون قدر الإمكان" لأن "الكثير من هذه المسائل تؤثر على قطاعات مختلفة من المجتمع". ولكن المشكلة هنا تكمن في مركزية عملية اتخاذ القرار. وحتى لو حصل زوكربيرج على أفضل الاستشارات التي يمكن أن تشتريها ملياراته، فإن النتيجة ما زالت مقلقة إلى حد كبير. فإذا نجحت خطته، سيعني هذا أن إمكانية التواصل الخاص بين شخصين ستكون متعلقة فقط بقرار مارك زوكربيرج.

إذا بدا لك هذا مثيراً للذعر، فيجب أن تفكر بالمبادئ التي عرضها زوكربيرج حول تركيز فيسبوك الجديد على الخصوصية، حيث أن أكثرها إشكالية هي الطريقة التي يناقش بها مسألة "التشغيل المشترك". يقول زوكربيرج إنه يجب أن يُتاح أمام الناس عدة خيارات بين خدمات التراسل، فقد يرغب البعض باستخدام فيسبوك مسنجر، على حين يفضل آخرون واتس آب، ويريد غيرهم استخدام إنستجرام. ويقول أن استخدامها جميعاً مسألة مربكة، ولهذا يجب أن تكون قادراً على إرسال الرسائل من واحد إلى الآخر.

ولكن السماح بالاتصالات خارج سيطرة فيسبوك، كما يقول، قد يصبح خطراً إذا أصبح بإمكان المستخدمين إرسال رسائل غير خاضعة للمراقبة من قبل "أنظمة الأمان والحماية" لفيسبوك. أي أنه يجب أن يُسمح لنا باستخدام أية خدمة تراسل نريد، بشرط أن تكون خاضعة لسيطرة فيسبوك من أجل حمايتنا. أي أن زوكربيرج يسعى إلى تكامل أكبر بين مُلكيات فيسبوك المختلفة.

يمثل احتكار النفوذ مشكلة، حتى بالنسبة للشركات التي تجني الكثير من الأرباح فقط عن طريق بيع التطبيقات المصغرة، حيث يسمح لها هذا الاحتكار بممارسة تأثير غير مشروع على واضعي القوانين، وسرقة المستهلكين. ولكن في حالة شركة مثل فيسبوك، والتي تُعتبر المعلومات منتجها الأساسي، تصبح هذه المسألة أكثر إثارة للمخاوف.

لهذا السبب، يجب أن يتم تقسيم فيسبوك. لن يكون هذا الإجراء بمثابة حل لجميع المشاكل التي أثارها وجود فيسبوك، ولن يكون من السهل، على سبيل المثال، أن نجد طريقة لحماية حرية التعبير والتصدي في نفس الوقت لخطاب الكراهية وحملات المعلومات المزيفة. ولكن تقسيم فيسبوك سيفتح المجال أمام تقديم حلول معقولة بالنسبة للمجتمع بأسره، بدلاً من التوصل إلى حلول مريحة لزوكربيرج وغيره من حملة أسهم فيسبوك.

يجب على الأقل أن يُفصل واتس آب وإنستجرام عن فيسبوك، كخطوة أولى ضرورية. وهو ما سيجعل الشركة أصغر، أي أنه سيقلل من نفوذها الذي يمكن أن تعتمد عليه لدى التفاوض مع شركات أخرى، ومع السلطات المسؤولة. وكما قال لويس برانديس منذ حوالي قرن، وكما يقول تيم وو بروفسور القانون في جامعة كولومبيا، والصحافي فرانكلين فوير، وكما قال آخرون غيرهم مؤخراً، فإن الاحتكارات تُراكم الكثير من النفوذ السياسي والاقتصادي، بشكل يعيق العملية الديمقراطية الضرورية للتوصل إلى التوازن المطلوب في التعامل مع مسائل مثل الخصوصية.

يبدو من هذه الرسالة أن نفوذ زوكربيرج قد تعاظم إلى حد لم يعد يشعر معه بالحاجة إلى إخفاء طموحاته. وقد كتب: "يمكننا أن ننشئ منصات للتشارك الخاص يمكن أن تكون أكثر أهمية للناس من المنصات التي بنيناها قبلاً لمساعدة الناس على التشارك والاتصال بشكل أكثر انفتاحاً".

ولكن هذا لن يحدث إلا إذا سمحنا له بذلك.