ما الذي دفع مبتكري تشات جي بي تي إلى التهديد بمغادرة أوروبا؟

5 دقائق
ما الذي دفع «أوبن أيه آي» إلى التهديد بمغادرة أوروبا؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/ gopixa

 في الوقت الذي يضع فيه الاتحاد الأوروبي اللمسات الأخيرة على قانون شامل لتنظيم الذكاء الاصطناعي، تثور المخاوف بين شركات التكنولوجيا -لا سيما الأميركية- من أن يؤدي "الإفراط في التنظيم" إلى تقييد أعمالها وتعريضها لمشكلات قانونية. وتصاعدت النبرة المستخدمة للتعبير عن هذا الخلاف مؤخراً، لدرجة تهديد شركة أوبن أيه آي بمغادرة أوروبا إذا استمرت هذه الضغوط التنظيمية.

تهديد علني من "أوبن أيه آي"

هدد سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أيه آي"، بأن شركته الناشئة التي طوّرت بوت الدردشة الشهير "تشات جي بي تي" قد تسحب خدماتها من السوق الأوروبية بسبب اللوائح التي يعدها الاتحاد الأوروبي حالياً لتنظيم عمل الذكاء الاصطناعي، والمعروفة باسم قانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي (EU AI Act). وعلى الرغم من تراجع ألتمان بعد ذلك عن تصريحاته، فإن الأزمة لا تزال قائمة.

أمضى ألتمان الأسبوع الماضي يجوب أوروبا، حيث التقى كبار السياسيين في فرنسا وإسبانيا وبولندا والمملكة المتحدة لمناقشة مستقبل الذكاء الاصطناعي والتقدم الذي حققه "تشات جي بي تي"، كما التقى يوم الخميس الماضي المستشار الألماني أولاف شولتز في برلين. لكن ألتمان ألغى زيارة كانت مقررة إلى بروكسل -العاصمة الفعلية للاتحاد الأوروبي- حيث يعمل المشرعون على قانون الذكاء الاصطناعي، الذي يُعد على نطاق واسع "مجموعة قواعد الذكاء الاصطناعي الأكثر شمولاً وأهمية في العالم".

وفي حديثه إلى الصحفيين خلال زيارته الأخيرة إلى لندن، قال ألتمان إن لديه "العديد من المخاوف" بشأن قانون الذكاء الاصطناعي الذي يعده الاتحاد الأوروبي، وأشار على وجه الخصوص إلى تحرك البرلمان الأوروبي هذا الشهر لتوسيع لوائحه المقترحة لتشمل نماذج الأساس (Foundation Models) وأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI).

يقول خبير الذكاء الاصطناعي، الدكتور زياد الصرايرة، وهو كبير المتخصصين في تخطيط وتصميم الخدمات الرقمية في هيئة الطرق والمواصلات الإماراتية، إن تلك القوانين الجديدة قد تفرض قيوداً ومتطلبات صارمة على استخدام وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد تتطلب من الشركات الامتثال لمعايير الشفافية والتفسير والامتثال لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يمكن أن يعرقل بعض التقنيات أو يزيد من التكاليف والجهود المطلوبة للامتثال.

وأضاف الصرايرة، في تصريحات لمنصة إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية عبر البريد الإلكتروني، أن التشريع الصارم قد يعوق عملية الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد تشعر الشركات بأن القيود المفروضة تقيّد قدرتها على تجربة وتطوير تقنيات جديدة بسرعة ومرونة.

اقرأ أيضاً: دليل سريع إلى أهم قانون لم تسمع به عن الذكاء الاصطناعي

ثلاث فئات من المخاطر

يُصنِّف القانون المقترح تطبيقات الذكاء الاصطناعي ضمن ثلاث فئات من المخاطر؛ أولاً: التطبيقات والأنظمة التي تخلق مخاطر غير مقبولة، مثل التقييم الاجتماعي الذي تديره الحكومة (كما تفعل الصين)، وهذه التطبيقات سيتم حظرها، ثانياً: التطبيقات عالية الخطورة، مثل أدوات مسح السير الذاتية التي تُصنِّف المتقدمين للوظائف، وهذه التطبيقات ستخضع لمتطلبات قانونية محددة. وأخيراً: التطبيقات التي لم يتم حظرها صراحةً أو إدراجها على أنها عالية الخطورة ستُترك إلى حدٍ كبير دون تنظيم. وكجزء من المسودة الجديدة، سيتعين على الشركات التي تنشر أدوات ذكاء اصطناعي توليدي، مثل "تشات جي بي تي"، الكشف عن أي مواد محمية بحقوق الطبع والنشر مستخدمة لتطوير أنظمتها.

يوضّح الصرايرة أن القوانين الجديدة قد تتطلب من الشركات توفير مستوى معين من الشفافية وتفسيراً للخوارزميات المستخدمة، ويمكن أن تكون هناك متطلبات لتوثيق وتوضيح مصادر البيانات وعمليات التجميع والتحليل المستخدمة في تدريب النماذج.

وحول هذه النقطة، قال الرئيس التنفيذي لـ "أوبن أيه آي": "التفاصيل مهمة حقاً.. سنحاول الامتثال، ولكن إذا لم نتمكن من الامتثال فسوف نتوقف عن العمل". وأضاف: "ستكون المسودة الحالية لقانون الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي مفرطة في التنظيم، لكننا سمعنا أنه سيتم سحبها. ما زالوا يتحدثون عن ذلك".

لكن ألتمان تراجع بعد أقل من يومين، وحاول التخفيف من التصريحات التي أطلقها في لندن، قائلاً إنه "أمضى أسبوعاً مثمراً للغاية من المحادثات في أوروبا حول أفضل السُبل لتنظيم الذكاء الاصطناعي"، مضيفاً في تغريدة على موقع تويتر: "نحن متحمسون لمواصلة العمل هنا، وبالطبع ليست لدينا خطط للمغادرة".

وخلال مؤتمر في جامعة ميونيخ التقنية (TUM)، قال إنه يعتقد أنه يجب على الهيئات المنظمة اتباع نهج الانتظار والترقب، لكنه أشار إلى أن تنظيم الذكاء الاصطناعي هو مجال "يجب أن نكون سبّاقين فيه".

اقرأ أيضاً: مشروع قانون جديد في أميركا يحاول حمايتنا من سيئات الذكاء الاصطناعي

رد صارم من بروكسل

قد يفتح التشريع الأوروبي الذي يطالب الشركات بالكشف عند استخدامها للبيانات المحمية بحقوق الطبع والنشر لتدريب نماذجها، الباب أمام منشئي المحتوى للحصول على تعويض عن استخدام بياناتهم.

لكن تهديد ألتمان الأولي قوبل برد قوي من بروكسل، حيث قال مفوض السوق الداخلية الأوروبية تييري بريتون، إن قواعد الذكاء الاصطناعي في أوروبا ليست قابلة للتفاوض. وأوضح في تغريدة أنه "لا جدوى من محاولة الابتزاز، والادعاء أنه من خلال صياغة إطار عمل واضح، فإن أوروبا تعرقل طرح الذكاء الاصطناعي التوليدي". وأضاف في تصريحات لاحقة لوكالة رويترز: "لنكن واضحين، قواعدنا موضوعة لأمن ورفاهية مواطنينا ولا يمكن المساومة على هذا".

بدوره، قال عضو البرلمان الأوروبي، الألماني سيرغي لاغودينسكي، الذي عمل أيضاً على التشريع، إنه في حين أن ألتمان ربما يحاول دفع أجندته بين الدول الفردية، فإن خطط بروكسل لتنظيم التكنولوجيا تجري "على قدم وساق"، وأضاف: "قد يكون هناك بعض التعديلات بالطبع. لكنني أشك في أنهم سيغيّرون المسار العام". كما قالت عضوة البرلمان الأوروبي، الهولندية كيم فان سبارنتاك، إنها وزملاؤها "ينبغي ألّا يتركوا الشركات الأميركية تبتزهم"، وأضافت: "إذا لم تتمكن أوبن أيه آي من الامتثال لمتطلبات حوكمة البيانات الأساسية والشفافية والسلامة والأمان، فإن أنظمتها لن تكون مناسبة للسوق الأوروبية".

إذا كانت الشركات في الاتحاد الأوروبي ملزمة بالامتثال لمتطلبات صارمة بينما تواجه الشركات من مناطق أخرى تنظيماً أقل صرامة، فقد تعتبر ذلك تنافسية غير عادلة، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تشجيع الشركات على توجيه استثماراتها وتطوير تقنياتها خارج الاتحاد الأوروبي، بحسب الصرايرة. 

من ناحية أخرى، قد تستهدف شركات التكنولوجيا التي تقع خارج دول الاتحاد الأوروبي أسواقاً أقل صرامة في سن القوانين، ما يؤثّر على العائد المادي لتلك الشركات باعتبار أن دول الاتحاد الأوروبي تعتبر من أكبر أسواق منتجات شركات التكنولوجيا.

نهج توافقي من جوجل

في المقابل، يبدو أن شركة جوجل تتخذ نهجاً توافقياً في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي، حيث أعلن الرئيس التنفيذي للشركة سوندار بيتشاي، أنه وافق على العمل مع المشرعين الأوروبيين بشأن ما يشار إليه باسم ميثاق الذكاء الاصطناعي (AI Pact). وهذا الميثاق هو مجموعة مؤقتة من القواعد أو المعايير "الطوعية" التي ستُطبق مؤقتاً حتى الانتهاء من قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، الذي من المتوقع أن تتم الموافقة عليه عام 2024، لكنه لن يدخل حيز التنفيذ حتى عام 2025.

واجتمع بيتشاي مع المفوض الأوروبي بريتون، الذي أصدر بياناً قال فيه: "ليس هناك وقت نضيعه في سباق الذكاء الاصطناعي لبناء بيئة آمنة على الإنترنت"، كما ذكر البيان أن الاتحاد يريد إطلاق ميثاق للذكاء الاصطناعي "ليشمل جميع الجهات الفاعلة الأوروبية وغير الأوروبية الرئيسية في مجال الذكاء الاصطناعي، على أساس طوعي". ومع ذلك، فإن الشركة التكنولوجية الكبرى الوحيدة التي ارتبط اسمها بهذه المبادرة حتى الآن هي جوجل.

اقرأ أيضاً: كيف سنواجه تهديد الذكاء الاصطناعي التوليدي بزيادة نفوذ الشركات التكنولوجية الكبرى؟

ومع ذلك، فإن هذا النهج المعلن من جوجل يتعارض ربما مع حقيقة أنها لم تطرح النسخة المحدّثة من بوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي بارد في الاتحاد الأوروبي حتى الآن.

أمّا شركة مايكروسوفت، فقد قال رئيسها براد سميث، يوم الخميس الماضي، إنه متفائل "بأن التعقل سوف يسود"، وإن قانون الذكاء الاصطناعي النهائي سيكون بمثابة حل وسط مقبول.

ويعتقد الصرايرة أن المخاوف من هذه التشريعات الجديدة ليست مشتركة بين جميع شركات التكنولوجيا، إذ إن بعضها قد يرحّب بالقواعد الأوروبية الجديدة نظراً لتعزيز الثقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعزيز الحماية للمستخدمين. بيد أن هذه القدرة على التكيُّف مع القوانين الجديدة قد تكون أعلى بالنسبة للشركات الكبيرة التي تمتلك المزيد من الموارد، وقد تضطر هذه الشركات الكبيرة إلى استثمار موارد إضافية وإجراء تغييرات شاملة في بنيتها التحتية لتطبيق القوانين.