إذا كنت من محبي قراءة التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو كنت من مرتادي مواقع الأسئلة والإجابات مثل كورا، فلا بد أنك لاحظت سؤالاً يتكرر مع كل تطور جديد أو خبر حول مجال الفضاء: لماذا تنفق البشرية ملايين ومليارات الدولارات كل عام لإطلاق صواريخ ومركبات فضائية إلى خارج الأرض؟ أليس من الأجدى أن نوجه مواردنا المحدودة أصلاً لمعالجة مشاكل الفقر والجوع على الأرض بدلاً من "حرقها" في السماء دون طائل أو في محاولات يائسة "للبحث عن كائنات فضائية"؟
فوائد واسعة لتكنولوجيا الفضاء
مع تصاعد حدة السباق الذي شهدناه هذا العام بين مليارديرات الولايات المتحدة إلىالوصول أولاً إلى الفضاء، يتكرر هذا السؤال بمختلف الصيغ وبكل اللغات تقريباً ومن مختلف المستويات العلمية والاجتماعية. لذا، نستعرض في هذه المقالة أبرز الأسباب التي تجعل البشر يوجهون أنظارهم نحو الكون الفسيح، وكيف تستفيد مختلف القطاعات بشكل مباشر وغير مباشر من التكنولوجيات المتقدمة التي تم تطويرها في (أو من أجل) الفضاء.
توفير الاتصالات وخدمات الإنترنت
لعل أهم الخدمات التي قدمتها تكنولوجيا الفضاء والتي نلمسها في حياتنا اليومية هي الاتصالات. فمن بين 4550 قمراً صناعياً يعمل حالياً في مدارات الأرض، هناك 2224 قمراً للاتصالات. وتتيح تلك الأقمار الاتصال بين نقاط جغرافية متباعدة على نطاق واسع. وتعتمد الكثير من المناطق في أميركا الجنوبية وإفريقيا وكندا والصين وروسيا وأستراليا، التي لا تتوفر اتصالات الخطوط الأرضية فيها على نحو منتظم، بشكل كامل على الاتصال بالأقمار الصناعية. وتوضح وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) أنه بحلول عام 1990، كانت مكالمتين من كل ثلاث مكالمات هاتفية عابرة للقارات تُجرى بواسطة أقمار الاتصالات.
وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن 50٪ فقط من سكان الأرض لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت. ويمكن لشبكة عالمية من أقمار الاتصالات -مثل تلك التي طورتها ونشرتها فعلاً شركات سبيس إكس (SpaceX) ووان ويب (OneWeb)- تمكين غالبية الناس من الاتصال بالإنترنت، لا سيما في المناطق النائية حيث تندر البنية التحتية وتنخفض معدلات التنمية. ومع الوصول إلى الإنترنت، تأتي فوائد أخرى غير مباشرة مثل مشاركة المعرفة، وتقديم خدمات الطب والتعليم عن بعد، وتمكين الناس من التواصل بشكل أكبر.
كما أحدثت تكنولوجيات الاتصالات القائمة على الأقمار الصناعية ثورة في عمليات التمويل والملاحة والخدمات المصرفية والبيع بالتجزئة، بعدما سهلت المعاملات الدولية ومكالمات الفيديو والقنوات الفضائية ووسائط البث التلفزيوني والراديوي.
مراقبة البيئة ومكافحة تغير المناخ
تُقدم الأقمار الصناعية التي تدور حول الكرة الأرضية أدق تقارير الطقس وترسم الخرائط الجوية وتحذرنا من العواصف الوشيكة. وتراقب مناخ الكوكب طوال اليوم وكل يوم، وتساعد في تتبع التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ مثل ارتفاع منسوب البحار وتبدل مستويات الرطوبة وحرائق الغابات والتغيرات الجوية. كما توفر الدعم والمعلومات لإدارة مصايد الأسماك، والإنتاج الزراعي، والمياه العذبة. وتراقب الأنشطة الضارة، مثل الصيد الجائر وقطع الأشجار والتعدين الضار بالبيئة والحرائق.
وبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه في مراقبة المناخ، ساهمت تكنولوجيا الفضاء في العشرات من التكنولوجيات المستخدمة حالياً لمكافحة تغير المناخ والقضاء على تلوث الهواء والمياه. ومن ضمن هذه الاستخدامات تكنولوجيا معالجة بيئية فريدة تسمى "الحديد الزيروفيلي المستحلب" (Emulsified Zerovalent iron ) طورتها وكالة ناسا عام 2002، للقضاء بشكل آمن على التلوث الكيميائي المتبقي من الأيام الأولى لبرنامج الفضاء. وتُستخدم هذه التقنية حالياً على نطاق واسع لإزالة السموم من التربة والمياه الجوفية.
وفي السياق نفسه، وفرت الأقمار الصناعية وتكنولوجيات الفضاء بشكل عام للبشرية إمكانية توقع الكوارث البيئية المفاجئة التي تحدث في أي مكان في العالم. ولعل توقع العاصفة الترابية الهائلة التي حملت، الصيف الماضي، ما يقرب من 24 طناً من الغبار من الصحراء الكبرى في إفريقيا عبر المحيط الأطلسي إلى أميركا الشمالية والجنوبية، مثالاً واضحاً على ما يمكن لهذه التكنولوجيا فعله. فقد مولت وكالة ناسا تطوير نظام إنذار مبكر للغبار الإفريقي دخل الخدمة قبل أيام فقط من هذه الواقعة. ومن خلال هذه الأداة، تلقى المواطنون في بورتوريكو للمرة الأولى إشعاراً مسبقًا بأن العاصفة الترابية قادمة، ما ساهم في الحفاظ على صحة آلاف الأشخاص في المنطقة المتضررة.
اقرأ أيضاً: ماذا يمكن أن تعلمنا الفيزياء حول التواجد في الفضاء
إتاحة الفرصة أمام التجارب العلمية والابتكارات
هناك نوعان متعاكسان من المساهمات التي قدمها قطاع الفضاء للمجال العلمي؛ النوع الأول هو الاختراعات أو التكنولوجيات التي تم تطويرها خصيصاً لاستكشاف الفضاء ومساعدة المركبات والبعثات الفضائية في رحلاتها، ومنها مثلاً التكنولوجيات المستخدمة للتخلص من النفايات في الفضاء، وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي، وإنتاج الأكسجين والطاقة والغذاء على نحو مستدام.
كما تندرج تحت هذا العنوان أيضاً العديد من الإبتكارات والأدوات المتقدمة التي شكّل قطاع الفضاء "مستخدماً رائداً" لها قبل نقلها واستخدامها في القطاعات الأخرى. ومن الأمثلة على حالة المستخدم الرائد في قطاع الفضاء، والتي تم استخدامها فيما بعد على الأرض، تكنولوجيا الخلايا الشمسية. فقد افتقرت أول خلية شمسية تم تطويرها في مختبرات بيل (Bell Labs) عام 1954 إلى إمكانية التطبيق العملي، حتى تم استخدامها في فانجارد 1 (Vanguard 1) -ثاني قمر صناعي أميركي ورابع قمر صناعي على الإطلاق- عام 1958. وبمرور الوقت أصبحت الخلايا الشمسية أكثر أهمية بالنسبة للأقمار الصناعية والمركبات الفضائية بسبب قدرتها على تجميع الطاقة في الفضاء، ما يسمح بتصميم مركبات أخف وزناً ويتيح للبعثات القدرة على الاستمرار لفترة أطول.
وفي الوقت الحالي، باتت الخلايا الشمسية أحد المصادر الرئيسية لتوليد الطاقة المستدامة على الأرض.
وبالإضافة إلى الخلايا الشمسية، هناك العشرات من التطبيقات والابتكارات التي نستخدمها حالياً بعدما ساهمت فيها أبحاث الفضاء، مثل "الحواجز الإشعاعية"، و"لوحات المعلومات" التفصيلية للطاقة، والابتكارات المتعددة في مجال تقليل استهلاك الطاقة بشكل عام، وحتى تغيير شكل شاحنات القطر الحديثة.
وتمتلك كل من وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية مكاتب مختصة بـ "نقل التكنولوجيا"، تهدف إلى ضمان تحقيق أقصى استفادة من آخر ما توصلت إليه أبحاث الفضاء ونقلها إلى مختلف القطاعات بما يناسب احتياجات كل قطاع ويحمل تأثيراً إيجابياً على حياة الناس عموماً.
أما الجانب الآخر من المساهمات فيتمثل في التجارب العلمية التي وفر لها الفضاء ظروفاً لا يمكن تحقيقها على الأرض. على سبيل المثال، توصل الباحثون على متن محطة الفضاء الدولية إلى طرق جديدة لمكافحة ضمور العضلات وفقدان العظام، وطوروا نظاماً للتمارين الرياضية ونظاماً غذائياً يقلل بشكل كبير من خسارة العظام والعضلات التي قد يتعرض لها رواد الفضاء أثناء إقامتهم في المحطة بسبب انعدام الجاذبية.
كما توفر تجارب الزراعة التي تُجرى على متن محطة الفضاء الدولية فرصاً لعلماء النبات لاستكشاف الظروف التي تسمح للنباتات بالنمو بشكل أكثر فعالية. في 10 أغسطس 2015 مثلاً، جرب رواد الفضاء أول سلطة قاموا بتنميتها في الفضاء، حيث تمت زراعة ثمانية أنواع من الخضر الورقية ليأكلها رواد الفضاء، في تجربة استهدفت أيضاً أفضل تكنولوجيات الزراعة في هذه البيئة الجديدة.
فوائد عرضية أخرى
يتطلب إرسال مركبات الفضاء والبشر إلى بيئات غريبة ينعدم فيها الأكسجين والغذاء والجاذبية إجراء آلاف التجارب، والتي تسفر في كثير من الأحيان عن ابتكارات عرضية لم تكن في الحسبان. ومن هذه الابتكارات النظارات والعدسات الطبية المقاومة للخدش، والتي بدأت بتطوير وكالة ناسا لخوذات رواد فضاء مقاومة للخدش، ثم منحت بعض الشركات رخصة لمواصلة تجربة هذه الفكرة على البلاستيك.
يمكن الإشارة هنا أيضاً إلى استخدام الهلام الهوائي أو الإيروجل (Aerogel) في العزل الحراري للحفاظ على درجات الحرارة شديدة البرودة. فعلى الرغم من أن مادة الإيروجل تم تصنيعها قبل إنشاء ناسا، إلا أن الوكالة الفضائية الأميركية هي التي طورت استخدامها بشكل عملي على مدار 10 سنوات، خلال بحثها عن طرق عزل أفضل للحفاظ على درجات الحرارة شديدة البرودة اللازمة لتخزين وقود مكوك الفضاء. واليوم، يتم استخدام هذه التقنية في مجموعة متنوعة من القطاعات، بدءاً من الملابس التي تحافظ على الدفء في الهواء الطلق وحتى المباني والعوازل الصناعية.
اقرأ أيضاً: كيف يتعامل رواد الفضاء مع الملل أثناء التواجد في الفضاء؟
تكنولوجيا الفضاء كمصدر للإلهام
إضافة إلى كل هذه الفوائد العلمية والاقتصادية الواسعة، ثمة جوانب معنوية لا تقدر بثمن تثيرها عمليات استكشاف الفضاء، لعل أبرزها هو توفير الإلهام وشحذ خيال الأجيال الجديدة، ودفع الناس للتفكير خارج الإطار التقليدي، وتعميق فهمنا للكون وللنظام الشمسي الذي نعيش فيه، وإرضاء الفضول البشري المتمثل في الإجابة على أسئلة جدلية مثل احتمالية وجود الكائنات الفضائية، وما إذا كان البشر جنساً فريد من نوعه، وموقعنا في الكون وكيفية نشأة الكون نفسه، بالإضافة إلى إشباع رغبة البشر الأزلية في التحرك والاستكشاف خارج حدود إدراكنا العادية.
وختاماً...
عندما خطا رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونج خطوته الأولى على سطح القمر، يوم 20 يوليو 1969، قال مقولته الخالدة: "هذه خطوة صغيرة للإنسان لكنها قفزة عملاقة للبشرية". واليوم، وبعد 52 عاماً يمكننا أن نقول الأمر ذاته على تكنولوجيا الفضاء، فهي وإن كانت مجرد خطوة صغيرة في مضمار العلم، إلا أنها أثرت بشكل كبير على مختلف جوانب حياتنا وفتحت للحضارة الإنسانية أبواباً واسعة على معارف علمية وتكنولوجية جديدة تتخطى حدود كوكبنا الصغير.