يعتبر مرض كوفيد-19 (الناتج عن إصابة الأفراد بفيروس كورونا المستجد) أكبر جائحة صحية على مستوى العالم في الوقت الحاليّ؛ إذ أصبح هنالك حوالي مليون و800 ألف حالة مؤكدة لأشخاص أصيبوا بالمرض، مع وصول عدد الوفيات لأكثر من 110 ألف شخص حول العالم حتى ساعة كتابة هذه المقالة، وفي حالة بعض القارات مثل أوروبا وأميركا، فإن عدد الإصابات والوفيات لا يزال في تزايدٍ مستمر، حيث تدل المؤشرات الحالية على أن معركة مكافحة الفيروس ستستغرق وقتاً طويلاً قبل الوصول لنقطةٍ مستقرة تكون عندها الدول والحكومات قادرة على استيعاب الحالات الصحية الخطيرة التي يعاني أصحابها من مضاعفاتٍ رئوية تتطلب معالجةٍ صحية متقدمة.
يمثل هذا الأمر أكبر التحديات التي تواجه معظم الدول التي ينتشر فيها الفيروس بشكلٍ كبير، خصوصاً أن اللقاح سيستغرق وقتاً طويلاً حتى يتوافر للاستخدام، وأفضل الترجيحات تشير إلى أن ذلك قد يحدث مع نهاية العام الحالي، وحتى الآن لا يوجد أي دواء مصدق عليه عالمياً كي يتم استخدامه في علاج الحالات المصابة. في ظل هذا الوضع، ومع الانتشار المتزايد للفيروس، فإن السياسة الأساسية المتبعة في مكافحته وحماية السكان هي الاعتماد على سلوك التباعد الاجتماعي الذي يهدف لتسطيح منحنى الإصابات، بما يجعل تزايد عدد الإصابات بطيء، والذي بدوره سيعطي وقتاً كافياً لنظم الرعاية الصحية لتكون قادرة على استيعاب كل الحالات الحرجة التي تتطلب عنايةً متقدمة.
بالرّغم من ذلك فإن مشكلةً أساسية تواجه الكثير من الأطباء والعاملين في المجال الصحي فيما يتعلق بمعالجة الحالات المصابة بالفيروس، وهي عدم إمكانية اتخاذ قرار صحيح حول من يجب أن يتم إدخاله إلى غرفة العناية المشددة أو من يجب وصله بأجهزة الدعم الرئوي، والسبب في ذلك هو عدم توافر معلومات كافية حول كيفية تطوير الفيروس لنفسه ضمن جسم الإنسان. وما يظهر حتى الآن أن غالبية الأشخاص المصابين بالفيروس يظهرون أعراضاً خفيفة أو متوسطة، ولكن بالنسبة للحالات التي تظهر عندها أعراض متقدمة (مثل متلازمة الضائقة التنفسية الحادة ARDS) التي قد تنتهي بالوفاة، فإن هنالك الكثير من الغموض: هل ستظهر الأعراض المتقدمة عند كبار السن فقط؟ أم عند الذين يمتلكون أمراضاً رئوية وقلبية مزمنة؟ أم أن الأمر يرتبط بالعوامل الجينية؟ أم أن كل ما سبق صحيح؟ هل يجب تقديم الرعاية الصحية لإنسان متقدمٍ في السن أم لشخص شاب بدأت تظهر عليه أعراض متقدمة؟ من سيحتاج إلى الرعاية الصحية أكثر من أي شخصٍ آخر؟ هذه الأسئلة هي أمورٌ يواجهها الأطباء بشكلٍ يوميّ أثناء عملهم في المستشفيات وبغياب معطيات ومعلوماتٍ كافية تساعد في اتخاذ القرارات، فإن العديد منهم قد يضطر لاتخاذ قراراتٍ يظهر لاحقاً أنها لم تكن صحيحة.
هذه الأمور هي التي شكلت الدوافع لفريقٍ من الباحثين من كلية جروسمان الطبية في جامعة نيويورك ومعهد كورانت للرياضيات في جامعة نيويورك بالتعاون مع المستشفى المركزي في مدينة وينزو Wenzhou في الصين ومستشفى كانجنان Cangnan الشعبي المتواجد أيضاً في مدينة وينزو. عمل الفريق البحثي على تطوير أداة مبنية على طرق وتقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل تقديم تحليلٍ تنبؤي لدعم الأطباء أثناء اتخاذ القرار، حيث توّفر الأداة الجديدة توقعاً حول المرضى الذين قد يطورون مستقبلاً مضاعفاتٍ صحية خطيرة جرّاء الإصابة بمرض كوفيد-19. هذا الأمر سيوفر استثماراً أفضل للموارد الصحية المتوافرة وضمان تقديم الرعاية الصحية المتقدمة لمن يحتاجها وتقليل نسبة الأخطاء التي قد تحدث في المستشفيات نتيجة قراراتٍ طبية تم اتخاذها في ظل غياب معلوماتٍ وبياناتٍ كافية حول المرض وكيفية تطويره لنفسه في جسم المرضى.
ومن ضمن الوسائل التقنية المتنوعة المتوافرة، يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في الجهود الرامية لاحتواء انتشار مرض كوفيد-19 وذلك سواء عبر إتاحة قدرات تشخيص سريعة وذكية تستطيع التنبؤ بإمكانية إصابة أشخاص معينين، أو حتى تفشي الفيروس في أماكن معينة دون غيرها، فضلاً عن قدرة استثمار الذكاء الاصطناعي في عمليات تطوير العقاقير والأدوية واللقاحات المخصصة لمحاربة الفيروس. وقد أظهرت الصين أن استثمار الذكاء الاصطناعي سيساعد بشكلٍ كبير في احتواء الفيروس عبر استغلال الروبوتات الذكية والعربات ذاتية القيادة حتى في عمليات مسح الأفراد باستخدام الكاميرات الحرارية للتنبؤ بإمكانية إصابتهم بالمرض. الآن يريد الباحثون في جامعة نيويورك استغلال الذكاء الاصطناعي من أجل دعم القرارات التي يريد الأطباء اتخاذها في المستشفيات، خصوصاً مع تحول الولايات المتحدة الأميركية لأكبر بؤر تفشي المرض في العالم، مع وصول عدد الإصابات في نيويورك وحدها لأكثر من 120 ألف إصابة.
يقول أناسي باري Anasse Bari، الأستاذ المساعد في قسم علوم الحاسب في معهد كورانت للرياضيات: "إن هدفنا من هذا العمل هو تصميم وتوفير أداة تساعد بدعم عمليات اتخاذ القرار عبر استثمار قدرات الذكاء الاصطناعي -وغالباً التحليل التنبؤي- وذلك من أجل محاولة التعرف على المرضى الذين قد تبدو عليهم أعراض ومضاعفات خطيرة في المستقبل. نأمل أن تستطيع هذه الأداء -عند الانتهاء الكامل من تطويرها- أن تساعد الأطباء على تحديد المرضى الذين يحتاجون حقاً لتخصيص أسِرَّةٍ لهم في المستشفيات من المرضى الذين يمكنهم متابعة علاجهم في المنزل".
بالنسبة للبحث نفسه، قام الباحثون بجمع معلوماتٍ ديموغرافية ومخبرية بالإضافة لمعلوماتٍ ناتجة عن عملية التشخيص الإشعاعي لـ 53 مريض تم تأكيد إصابتهم بمرض كوفيد-19 خلال شهر يناير الماضي ضمن مستشفيين صينين. وبالنسبة لمعظم المرضى الذين تم دراستهم فإن الأعراض المرتبطة بالإصابة كانت خفيفة إلى متوسطة، وتتضمن الحمى وارتفاع درجة الحرارة والسعال. ظهرت أعراض متقدمة وخطيرة في عددٍ قليل من الحالات التي تطورت خلال فترةٍ زمنية قدرها أسبوع، وتضمنت الأعراض المتقدمة الإصابة بالالتهابات الرئوية. وقد تم تصميم البحث والدراسة المرافقة له للتوصل إلى معرفةٍ حول إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعيّ في التنبؤ بالحالات التي سيظهر عليها أعراض متقدمة، مثل متلازمة الضائقة التنفسية الحادة ARDS، التي ينتج عنها امتلاء الرئتين بالماء، مما قد يؤدي إلى تحولها لخطر يهدد الحياة، خصوصاً عند المتقدمين في العمر.
قام الباحثون بتصميم نماذج حاسوبية مبنية على طرق الذكاء الاصطناعي التي تستطيع التعلم من المعطيات المدخلة إليها، مما يعني أنه كلما زادت البيانات المدخلة للنموذج فإن دقته وقدرته على التنبؤ الصحيح ستتحسن، وبشكلٍ خاص، تم الاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي المبنية على شجرات اتخاذ القرار، والتي تقوم بالبحث عن القرار الأمثل ضمن شبكةٍ كبيرة جداً من الخيارات المتوافرة، التي تقوم بمحاكاة النتائج المحتملة لكل خيار.
أول الأمور المفاجئة التي وجدها الباحثون أن العديد من الأعراض المميزة والخاصة بمرض كوفيد-19 -مثل بعض الأنماط التي تظهر في الصور المقطعية للصدر، أو الحمى، أو الاستجابة المناعية الشديدة- لم تمثل أي قيمةٍ مفيدة في عملية التحليل التنبؤي للمرضى الذين ستظهر عليهم أعراض متقدمة وخطيرة للمرض، وذلك عندما كانت الأعراض متوسطة أو خفيفة. حتى العمر والجنس لم تشكل أي معلومةٍ مفيدة تساهم في بناء تنبؤٍ دقيق حول المرضى الذين ستظهر عليهم الأعراض الخطيرة للمرض، وذلك على الرّغم من أن معظم الدراسات الإحصائية المتوافرة تشير إلى أن الفئة الأكثر تعرضاً للخطر هي الذكور الذين يزيد عمرهم عن 60 سنة.
بدلاً من ذلك، وجد الباحثون أن هنالك ثلاثة عوامل محددة تلعب دوراً هاماً ومحورياً في إمكانية التنبؤ الدقيق بالمرضى الذين تظهر عليهم الأعراض الخطيرة، وهذه العوامل هي مستوى إنزيم ألانين أمينو ترانسفيراز ALT الذي يتم إفرازه من الكبد، والعامل الثاني هو الآلام العضلية والعامل الثالث هو مستوى الهيموغلوبين في الدم. بالاعتماد بشكلٍ أساسيّ على هذه العوامل بالإضافة لبعض العوامل الأخرى، أظهر الفريق البحثيّ أن نموذجهم قادر على التنبؤ بالمرضى الذين سيتعرضون لمضاعفاتٍ رئوية خطيرة بدقةٍ تزيد عن 80%.
بالنسبة لإنزيم ألانين أمينو ترانسفيراز فإن إفرازه يتزايد بشكلٍ كبير جداً عند الإصابة بمرض التهاب الكبد، وبحالة الدراسة الجديدة أظهر الباحثون أن تزايدَ نسبتِه يزيد قليلاً عن الحالة الطبيعية، وذلك بالنسبة للمرضى الذين ظهرت عليهم الأعراض الخطيرة، وبالنسبة للآلام العضلية العميقة فإنها قد شكلت أيضاً أمراً مشتركاً عند كل الحالات التي أظهرت أعراضاً متقدمة؛ حيث عادةً ما يتم ربط هذه الآلام مع نسبة التهاب عالية في الجسم، وبهذه الحالة فإنها مرتبطة مع التهاب رئوي متقدم.
أخيراً، فإن المستويات العالية للهيموغلوبين (وهو الذي يسمح لكريات الدم الحمراء بنقل الأكسجين لأنسجة الجسم) ترتبط أيضاً بحصول ضائقة ومشاكل تنفسية. من الممكن بالطبع أن يتم تفسير ارتفاع نسبة الهيموغلوبين بعوامل أخرى مثل عدم قيام المرضى بالتبليغ عن نشاطاتٍ غير صحية مثل التدخين، التي من شأنها رفع مستوى الهيموغلوبين، ولكن تم استبعاد هذا التعليل نظراً لأنه من بين كافة حالات المرضى المسجلة في مستشفى وينزو والداخلة ضمن الدراسة، قام مريضان فقط بتأكيد وجود نشاط تدخين، ولكنه نشاط سابق، وعند إصابتهم بمرض كوفيد-19 كان كل منهما قد أقلع عن التدخين.
على الرّغم من أهمية الدراسة والأداة البرمجية الناتجة عنها، إلا أنها لا تزال تمتلك محدودياتٍ في بعض الجوانب مثل عدد الحالات القليل نسبياً للمرضى الذين شاركوا في الدراسة، فضلاً عن انخفاض عدد الحالات التي عانت من أعراض متقدمة وخطيرة ضمن شريحة الأفراد المشاركين في الدراسة.
تقول ميجان كوفي Megan Coffee، التي تعمل أستاذة مساعدة في قسم الأمراض المعدية وعلوم المناعة ضمن كلية الطب في جامعة نيويورك، وهي من المؤلفين المشاركين للبحث الجديد الذي تم نشره بتاريخ 30 مارس في مجلة Computers, Materials and Continua: "على الرّغم من الحاجة إلى إجراء عمليات التحقق من دقة النموذج الذي قمنا بتطويره، فإننا نعتقد أنه يحمل آمالاً كبيرة كأداةٍ تساعد على التنبؤ بالمرضى الأكثر ضعفاً بمواجهة الفيروس. ويجب التأكيد على أن الأداة التي قمنا بتطويرها يجب أن تكون أداة دعم للخبرة الطويلة والكبيرة للأطباء أثناء معالجتهم للأمراض المعدية الخطيرة. سأقوم بالانتباه أكثر خلال الممارسات السريرية للمعطيات الجديدة التي حصلنا عليها، مثل ضرورة المراقبة عن كثب للمرضى الذي يمتلكون شكوى حول آلام عضلية حادة".